لم يتم الانتهاء من تحديد تفاصيل تدابير الإصلاح الاقتصادي الطموح لمصر، لكنّ الخطة قد أثارت الجدل بالفعل.
وقد اعتبر صندوق النقد الدولي الوضع المالي لمصر متأزمًا، وقدم حزمة قروض جديدة مشروطة بالتغيير.
ومن بين أمور أخرى، سيتعين على القاهرة تنفيذ مزيد من الإصلاحات الموجعة تمس دعم الوقود وزيادة الضرائب وتقليص الإنفاق، ولا تتمتع أي منها بدعم جماعات المصالح أو الكتلة السكانية المتزايدة ذات معدلات الفقر المرتفعة.
ولكن رغم الضغوط الشعبية، لا تستطيع الحكومة التراجع الآن، خشية أن تفقد ما أحرزته من تقدم في هذه الخطوات.
وستستمر حالة الغليان والغضب الشعبي، لكنها لن تنتج حراكًا شعبيًا واسعًا كالذي أسقط «حسني مبارك».
وحتى إن فقد «السيسي» بريقه الذي بدأ به عندما اعتلى كرسي الرئاسة عام 2014، لا يزال المصريون يرون حكومته المدعومة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خيارهم الأمثل. لذا، ستمضي الإصلاحات قدمًا، على الرغم من أنّها قد تكون غير شعبية وغير فعالة.
تأمين المساعدة
تسعى القاهرة للحصول على أكبر حزمة مساعدات قد يمنحها صندوق النقد الدولي لدولة في الشرق الأوسط، بقيمة 12 مليار دولار مقسمة على ثلاث سنوات، حال وفّقت القاهرة أوضاعها وطابقت شروط صندوق النقد الدولي والدائنين العالميين واستمرت في الإصلاح.
وكانت التدابير اللازمة لتأمين القرض قد طبقت جزئيًا لبعض الوقت، حتى قبل الإعلان عن الطلب رسميًا في أغسطس.
وفي أبريل، وافقت الحكومة على خطة لخفض العجز العام للعام المالي 2016-2017 إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان مستمرًا في مستويات 11 إلى 13%.
وكان مما تم الاتفاق عليه في أبريل، إصلاحات تتعلق بدعم الوقود، وهي خطوة بدأت مبكرًا منذ تولى «السيسي» الرئاسة عام 2014.
وتأمل القاهرة أن يستعرض صندوق النقد الدولي جهود مصر وينهي إجراءات حزمة القروض في الشهرين القادمين، القرار الذي سيجعل من 2017 عامًا للإصلاح.
وعلى الرغم من أن «السيسي» قد أجرى إصلاحات مبكرة في فترة ولايته، فإنّ جهوده كانت معتمدة على الزخم الشعبي والحماس بعد نجاحه في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي. لكنّ هذا التأثير قد تضاءل في العامين الأخيرين.
وعلى الرغم من أنّ الإجراءات الأخيرة للسيسي قيل أنّها لحفز النمو وتحرير مصر من الاعتماد على المساعدات الخارجية لفترة طويلة، فإنّ الإصلاحات في معظمها إسعافات أولية للعجز وأداة لتأمين مساعدات صندوق النقد الدولي. علاوة على ذلك، فإنها ستكون إجراءات مؤلمة للعامة.
ومثل أي حكومة تتطلع لكبح جماح العجز المتضخم وسط تراجع الإيرادات، تسعى مصر لزيادة الإيرادات مع خفض الإنفاق الحكومي.
إذا لم يتم تنفيذ ذلك على النحو الصحيح، سيضغط ذلك بشدة على السكان الذين يعانون بالفعل من ارتفاع معدلات الفقر. وسيؤدي خفض قيمة الجنيه بالتأكيد لتراجع القوة الشرائية عبر الاقتصاد، ما يقوض زيادة الاستهلاك المحلي على المدى الطويل.
وستوفر الحكومة المصرية حلولًا لجعل هذا الدواء المر أكثر قبولًا، وخاصةً للفئات الضعيفة والمهمشة. وعلى الرغم من عدم توقع اندلاع تظاهرات واسعة نتيجة لذلك، إلّا أنّ كلًا من المستثمر والمستهلك سيتضررون على المدى القصير.
خفض الإنفاق وزيادة الضرائب
تخطط القاهرة، خلال 3 سنوات، لرفع الدعم عن الوقود كليًا. وسيكمل هذا الإصلاح الطموح الجهود التي بدأت عام 2014، وسيتبعها رفع كامل للدعم عن الكهرباء عام 2019. وتتحرك الحكومة للتركيز على الوقود بدافع اعترافها بأنّ الدعم المكلف قد أعان الأثرياء الذين يمتلكون سياراتهم الخاصة على حساب الفقراء.
وحتى الآن، عملت التخفيضات على الحد من الإنفاق الحكومي، وانخفضت تكلفة الدعم على البترول من 71.5 مليار جنيه مصري (8.05 مليار دولار) عام 2014-2015 إلى 55 مليار جنيه مصري في العام المالي الأخير. (وكان انخفاض أسعار النفط العالمية قد ساعد على ذلك أيضًا). ويتم العمل على خفض التكلفة عام 2016-2017 لتصل إلى 35 مليار جنيه مصري.
وتسبب التراجع الحاد في دعم الوقود في تخويف بعض شركات النفط والغاز الطبيعي من البحث عن برامج سداد طويلة الأجل. لكن إخراجهم خارج الصورة تمامًا سيكون صعبًا، والمستهلكين يبدون معارضة بالفعل.
وبالمثل، كان هناك دفع ضد الأسعار الجديدة للكهرباء والمياه والتي فرضت في الأشهر الأخيرة، وهو ما يمكن أن يبطئ من الرفع التام للدعم بحلول 2019.
وعلى النقيض من حماسها الشديد لتخفيض دعم الوقود، فإنّ القاهرة حذرة للغاية فيما يتعلق بالدعم على السلع الغذائية الأساسية بسبب تاريخ أعمال الشغب في مصر الحديثة بسبب الغذاء.
ولكن مع خروج الإنفاق عن السيطرة، حاولت وزارة المالية إعادة توزيع المساعدات عن طريق البطاقات الذكية لمساعدة الفقراء على الدفع مقابل السلع الأساسية.
وقد تسبب هذا بجدل بالفعل، على الرغم من ذلك، وخاصة حول من هو المستحق للدعم. ولن توقف الطريقة الجديدة بإضافة أموال الدعم مباشرة إلى البطاقات من الاضطرابات، وخاصةً من الطبقة العليا والمتوسطة غير المستحقين للدعم ولكنّهم يرون قوتهم الشرائية تتآكل.
وستجد القاهرة صعوبة كذلك في الحفاظ على مخازن السلع المدعومة مملوءة بالبضائع. فالحكومة تعاني بالفعل من نقص في كميات السلع الغذائية المدعومة وسوء توزيعها، وخاصةً السكر وزيت الطعام والأرز، ولجأت إلى مصادرة مخازن الطعام من الشركات الخاصة والتجار في أكتوبر دون تعويضهم لسد النقص في منافذها المدعمة. على الرغم من أنّ هذا غير مستدام مع النقص في السلع الغذائية بالنظر إلى القصور في سلسلة التوريد في مصر، وهو ما يثير الشكوك حول تعزيز الإصلاح الاقتصادي.
الوعود التي خرجت بأن الإصلاحات في الدعم ستؤدي إلى تعزيز المرونة للمستهلك وتساعد على توافر نطاق أوسع من المواد الغذائية والتي تبعت مؤتمر الاستثمار المصري في شرم الشيخ في مارس عام 2015، تقع الآن تحت المجهر. حتى أنّ الوعد المباشر من الرئيس المصري بعدم ارتفاع أسعار الغذاء، أثبت أنّه غير صادق.
فقد ارتفع سعر السكر المدعم من 6 جنيهات مصرية إلى 7 جنيهات، وارتفعت تكلفة المنتجات غير المدعمة لأكثر من ذلك.
واستكمالًا لإجراءات خفض الإنفاق، والحفاظ على بعض الإنفاق لدعم السلع الغذائية، تخطط الحكومة لزيادة الضرائب وتقليص التكاليف الإدارية. وتمّ تضمين ذلك في موازنة العام القادم في الرؤية الشاملة للفترة التي تنتهي عام 2019. وهناك تغيير شامل لقانون الضرائب المصري على الأعمال، والمعدّ لزيادة نسبة قيمة الضرائب في مصر من 13% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 18%.
كما تحاول الحكومة تخفيض ميزانية القطاع العام عن طريق جهودها في الوزارات لتقليل فاتورة الإدارة الحكومية دون المساس بأجور القطاع العام الحساسة.
لكن تنفيذ هذه الخطة الضريبية لن يكون سهلًا. السبب الأول، أنّ القاهرة تميل لخفض عائداتها من الضرائب أقل من المطلوب، الأمر الذي يضع مثل هذه الخطط محل شك.
على سبيل المثال، مع نهاية الشهر الأخير من العام المالي الماضي، حاولت مصر الحصول على زيادة أكثر من الربع من عائدات الضرائب. وقد دفعت الطبقة العليا والمتوسطة ضد هذه السياسات الجديدة. حتى أنّ المحامين والمحاسبين قد طالبوا باستثنائهم من ضريبة القيمة المضافة الجديدة التي تبلغ قيمتها 13%، وتزيد لـ 14% العام القادم.
والبعض حتى قد طعن على القانون وينظر أمام المحكمة في نوفمبر. وسوف تتحمل الطبقات الأشد فقرًا العبء الأكبر لزيادة الضرائب على السلع الأساسية، بما فيها السلع الغذائية، حتى ولو تم استثناء مثل هذه السلع من ضريبة القيمة المضافة الجديدة. وربما يصبح هذا عاملًا يساعد جهود تنظيم احتجاجات شعبية ضد الإصلاحات الاقتصادية، ومن بينها التظاهرات المخطط لها في 11/11.
آفاق قاتمة
تعدّ الاضطرابات العامة وما ينتج عنها من عدم استقرار اقتصادي، وبشكل ساخر، نتيجة لإجراءات الإصلاح الاقتصادي التي كان من المفترض أن تكون قد وضعت لتساعد على استقرار الاقتصاد المصري على المدى القريب.
والنتيجة الآن، بيئة لا تساعد على الاستثمار. واستيلاء القاهرة على مخازن السكر والأرز التابعة للشركات الخاصة لصالح السوق المدعم، لا يعطي أي مؤشر ثقة للمستثمر.
علاوة على ذلك، تضع الحكومة قيودًا على الأسعار القصوى وتفرضها على القطاع الخاص الذي عانى الأمرّين في الأسابيع الأخيرة. وتصر القاهرة أنّ هذه الإجراءات مؤقتة بسبب الوضع الاستثنائي في مصر، لكنّ المستثمرين غير مقتنعين.
وستبقى مصر ضعيفة طالما أجبرها الركود الاقتصادي على تعزيز العلاقات مع القوى الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي. ووسط عدم الاستقرار الإقليمي، ستفضل مصر الحرية في اتخاذ القرارات السياسية الخارجية، وخصوصًا مع ضخ النقد الخليجي الذي يأتي مع قيود على السياسة الخارجية، والمساعدات الأمريكية التي تأتي مع محاضرات حول حقوق الإنسان. لكنّ هذا الموقف لن يتغير في القريب العاجل.
وستظل مصر تتودد لحلفائها من أجل القروض مع ضمانات بدعم موقفها.
وبالنظر للصورة الأمنية بشأن مصر، فهناك أسباب أكثر من أي وقت مضى لإقناع الناخبين بضرورة تحمل آلام الإصلاح الاقتصادي.
وبهذا، تأمل القاهرة الحد من انضمام الشباب للتنظيمات المتشددة المسلحة، بالإضافة إلى منع التنظيمات المعارضة للحكومة من ارتكاب مزيد من العنف.
ومع تركيز الحكومة في القاهرة أكثر من أي وقت مضى على إخراس أي صوت للمعارضة، علمانيًا كان أو إسلاميًا، أصبح المصريون محبطون من إمكانية اندلاع تظاهرات شعبية واسعة. وهذا ما تبني عليه الحكومة لتكسب الوقت من أجل أن تصبح الإصلاحات الاقتصادية سارية المفعول.
ترجمة: الخليج الجديد