من المقولات التي لا يمكن للعدو الصهيوني مواجهتها مقولة العربي او الفلسطيني. فاعترافه بوجود العربي هو اعتراف ضمني يكذب أيديولوجيته من أساسها ولذا نجد الصهاينة يبذلون قصارى جهدهم في أن يزيلوا الوجود الفلسطيني تماماً لا من الوجود وحسب، وإنما من وجدانهم ووجدان الآخرين.
ويتبع الصهاينة. مناهج عديدة للوصول لهذا الهدف. فيسمون العربي بأنه متخلف (وبالتالي لا حقوق له)، أو أنه لا هوية محددة له (وبالتالي يمكن توطينه في أي مكان) أو أنه لا وجود له (ولذا قالوا عن فلسطين الآهلة بالسكان والتي كانت تعد من أزحم بقاع العالم: أرض بلا شعب، أي أرض خالية).
وكل هذه المناهج كانت تصلح للتعامل مع الفلسطينيين عن بعد، ولكن بعد حرب 1967 اختلت الأمور، وكان علي العدو الإسرائيلي أن يتعامل مع الفلسطينيين، وكان عليه أن يقاتل ضدهم وأن يحاول التصدي لمظاهراتهم وأن يهرب من رصاصاتهم، وأصبح من الصعب عليه أن ينادي بأنهم لا وجود لهم، وإلا بما يفسر تلك القلاقل التي يثيرها هذا العربي الغائب، ولذا لجا العدو، شأنه شأن كل المستعمرين، إلى تقسيم الفلسطينيين إلى أقلية مناضلة "سريرة" يسميها بالإرهابيين أو المتسللين أو المتشردين أو أتباع المنظمة (ولا يسمونهم قط بالفدائيين أو المدافعين عن الحرية) وأغلبية طيبة خيرة طيعة مستسلمة تستمع إلى أوامره وتنصاع لها. ويجب أن تنتبه إلى أن مثل هذه التقسيمات الساذجة بل والواضحة البلاهة ليست من قبيل التدليس على الآخرين وحسب ولا من قبيل خداع الرأي العام العالمي، بل هي قناعة إسرائيلية حقيقية، تحدد سلوك العدو وتفسر العديد من برامجه الفاشلة. ويظهر في الصحف الإسرائيلية من آونة لأخرى أنباء توحي بأنه "تم أخيرا السيطرة على الموقف سيطرة تامة" أو "أن المقاومة قد اجتثت تماما من جذورها" أو أن "أهل الضفة قد بدأوا يظهرون الثقة في القيادة الإسرائيلية الحكيمة الرشيدة" وقد امتلأت الصحف الإسرائيلية بأنباء عن نجاح غزو لبنان وعن أن القوات الإسرائيلية قد حققت ما تصبو إليه (وهم يسمون غزو لبنان "عملية سلام الجليل" ، وهكذا يصبح الفلسطيني الذي يدافع عن حقه إرهابيا، والصهيوني الذي يستولي على أرض الآخرين مدافعا عن السلام).
ومن أطرف الأمثلة على هذا الاتجاه التصريح الذي أدلى به الجنرال بنيامين بن اليعازر (الذي يشغل وظيفة "منظم الأنشطة في يهودا السامرة، أي الضفة الغربية) (الجيروساليم بوست 4 نوفمبر 1983) بأنه لاحظ أخيرا علامات وقرائن على ما سماه اتجاها مترددا أو حذرا نحو البرجمانية بين عرب الضفة والقطاع.
والبراجمانية تعني في نهاية الأمر التكيف مع الأمر الواقع وتقبله، والأمر الواقع هو القهر الإسرائيلي. وكي يرتدي مسوح الموضوعية قال الجنرال الصهيوني أن الوضع الآن مختلف عما كان عليه بين عامي 1978 و 1981 (حينما كان يشغل منصب الحاكم العسكري في الضفة الغربية).
وقد حاول الجنرال تفسير التغير الذي حدث بأنه يعود إلى هزيمة المنظمة في بيروت وانقسامها في طرابلس وإلى انشغال الدول العربية كل بمشاكلها ومصالحها. ثم أضاف أن 55% من كل الفلسطينيين في المناطق المحتلة وُلدوا بعد 1967 ولا يعرفون الأردن ورمزهم الأساسي هو منظمة التحرير، و40% منهم يذهب للمدارس والجامعات وقد سألته الجريدة كيف ينوي أن يكسب قلوب هؤلاء الشبان المرتبطين بالمنظمة, فكان رده متواضعا إذ قال إنه لن يحاول بطبيعة الحال أن يحولهم إلى مؤيدين للصهيونية وإنما سيساعدهم على حل مشاكلهم المحلية بأن ينشئ عددا أكبر من البنوك وأن يؤسس شركة استثمارية ولا داعي للحديث عن القضايا السياسية العريضة!
وهكذا ستحل إسرائيل المسالة الفلسطينية بتحويل انتباه الشباب الفلسطيني إلى أمور المال والدنيا بدلا من قضايا الوطن والأرض.
ولا يعدم الصهاينة أن يجدوا من يتعاون معهم ويؤازرهم ويقدم لهم العون والنصح والاستشارة.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي تود التوصل إلى حل سريع ودائم وشامل للمشكلة الفلسطينية عن طريق تقوية قبضة الاحتلال الإسرائيلي وعن طريق فرض الكيان الصهيوني كأمر نهائي وجدت أن من الضروري مد يد المساعدة للجنرال بنيامين بن اليعازر ولذا تمت دعوته لزيارة الولايات المتحدة ليجتمع مع وزير الخارجية الأمريكية وكبار موظفي الوزارة ليبحث معهم عن كيفية تحسين مستوى معيشة العرب في الأراضي المحتلة (أي مزيد من البنوك) وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تساهم في التخفيف من حدة بعض جوانب الاحتلال الإسرائيلي ععن طريق المساعدات الفنية والتنموية. (وتأتي زيارة بن اليعازر ردا على زيارة وفد أمريكي رسمي قام بزيارة الضفة الغربية وبدراسة المشاكل التي يواجهها الاحتلال الإسرائيلي هناك) (الجيروساليم بوست 1 ديسمبر 1983) وتوجد عناصر أخرى من الفلسطينيين العرب تساند هذه المحاولات البرجمانية ولا تشغل بالها بمشاكل الوطن أو الأرض، وهذه العناصر ممثله فيما كان يسمى بروابط القرى، التي أصيبت بالسكتة القلبية أو ماتت دون أن يرثيها أحد (لا العدو ولا الحبيب).
ولكن بعد مرور عشرة أيام وحسب من تصريحات الجنرال المتفائلة، وجد نفسه يحضر اجتماعا مع وزير الدفاع لمناقشة أعمال الشغب والفوضى بالضفة الغربية، وقد صرح لـ معاريف (14 نوفمبر 1983) أن الحكومة لن تسمح بتدهور الأحوال (وهو الذي كان يتحدث عن التحسن الملحوظ) وقد انذر الجنرال أنه سيضع حدا لظاهرة إلقاء الحجارة ثم أضاف قائلا: ولكن هذا لن يتم إلا حسب معايير الدولة الصهيونية جيش الدفاع الإسرائيلي (وهذه المعايير المتحضرة لا تستبعد سد مداخل مخيمات اللاجئين أو أنشاء أسوار عالية مثل أسوار السجون وحول مباني المدارس، أو فرض ساعات طويلة من حظر التجول) ولكن حسب ما جاء في الجيروساليم بوست، باءت كل هذه المحاولات بالفشل ولم يظهر الفلسطينيون الذين وُلدوا في الأرض المحتلة، أي استعداد لتقبل الكيان الصهيوني ولعل الجنرال المتفائل قد قرأ هذه الافتتاحية التي اقتبسنا منها هذه المعلومة عن شباب الأرض المحتلة، خاصة وأنهم هم محط أمله ومصدر تفاؤله!
وبعد مرور أسبوعين وحسب من تصريحات الجنرال المتفائل كان جنرال آخر هو شلومو اليا، رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية، يقوم بافتتاح مبني البلدية الجديد في أحدي مدن الضفة ، وقد اصطحبه في هذه الزيارة مصطفي دودين مؤسس روابط القرى. ولكن الجماهير الفلسطينية العنيدة لم بيد أي برجمانية أو اعتدال، لم تقابل أبطال البنوك والاستثمارات والقضايا المحلية بالزهور وإنما بالحجارة (الجيروساليم بوست 16 نوفمبر 1983). وقد اندلعت الاضطرابات في نفس اليوم في مدينة نابلس وأحاطت الجماهير الغاضبة بسائق تاكسي إسرائيلي وألقت عليه الحجارة مما أضطره إلى إطلاق النار عليهم، وألقى البوليس القبض على ثلاثة طلاب من جامعة النجاح.
ويبدو أن إلقاء الحجارة أصبح سلاحا أساسيا في يد الجماهير العزل من السلاح في الضفة الغربية. ولكن يجب أن تدري مدى أهميته في الحرب ضد المستعمر الاستيطاني الإحلالي فهذا المستعمر لا يود استغلالنا أو استغلال مواردنا الطبيعية وحسب (كما كان الحال مع الاستعمار الإنجليزي في مصر) وإنما يود استلاب الأرض والعيش فيها ينعم براحة البال والهدوء، كما أنه يود أن يسلبنا أسباب الحياة والاستمرار حتى نرحل عن الأرض ليحل محلنا فيها. وكما قلنا من قبل يتميز المستوطنون الصهاينة الجدد بأنهم أساسا من المرتزقة، الذين استوطنوا الضفة الغربية لأغراض اقتصادية نفعية ولذا بالمنظمة الصهيونية تدفع لهم الرشاوي الباهظة على هيئة منازل مريحة وطرق معبده خصيصا لهم ومدارس لأطفالهم حتى ينعموا بالعيش في هواء أرض الميعاد المكيف! ولذا فكل ما ينغص عليهم حياتهم هو في نهايته إحباط للمخطط الصهيوني. وبالفعل يبدو أن هذا السلاح، رغم ضعفه وبدائيته، قد أصبح سلاحا فعالا، ولذا نجد أن المحاكم الإسرائيلية قد حكمت على ساب عمره 17 عاما بالسجن لمدة ستة شهور وبالغرامة 30 ألف شيكل لإلقائه بالحجارة على الصهاينة (الجيروساليم بوست 22 نوفمبر 1983) (بل ويطالب ممثلو المستوطنين الصهاينة بتوقيع عقوبة السجن لمدة 25 عاما لمن يقذف الحجارة، وذلك في اجتماع حضره وزير الخزانة كوهين/ اورجاد (الذي يعيش في منزل فاخر في الضفة الغربية) والوزير تسيبوري والوزيرة سارة دورون. وقد قال ممثلو المستوطنات أن منظمة التحرير الفلسطينية لها اذرع ممتدة في الأراضي المحتلة تتلقي التعليمات من وراء الحدود بل ويطالب المستوطنون كذلك بتوقيع عقوبة الطرد على من يلقي بالحجارة (عل همشمار 14 ديسمبر1983). وفي اجتماع سابق ناقش المستوطنون الطرق اللازم اتخاذها للقضاء على ظاهرة إلقاء الحجارة وطالبوا بتدخل الجيش وقد قام المستوطنون بمظاهرة احتجاج قادها الحاخام موشيه ليفنجر (أحد زعماء الجوش ايمونيم) لإظهار استيائهم. كما اقتحمت جماعة أخرى من المستوطنين أحدى المدارس العربية وانذروا الناظر بتوقيع العقوبات عليه أن قام أي من تلاميذ مدرسته بإلقاء الحجارة (الجيروساليم بوست 22 نوفمبر 1983) بل أن بعض المستوطنين اقتحم إحدى المدارس بعد أن ألقت طفلة لا تتعدى العاشرة الحجارة عليهم. وتصل الماساة/ الملهاة ذورتها حينما نجد رئيس وزراء الكيان الصهيوني (الجيروساليم بوست في 24 يناير 1984) وقد اجتمع مع عضوي الكنيست من كتلة هتحيا ليخبرهما أن إلقاء الحجارة من أسباب قلقه العميق ويعد بأنه سيدرس القضية شخصياً كما قال أنه يجب اتخاذ الخطوات اللازمة لوقف هذه المضايقات خاصة على الطرق السريعة وقد أدلى بتصريحات مماثلة !
وهكذا يمكن القول أن تفاؤل الجنرال بن اليعازر كان من قبيل تهدئة الذات، وأن العدو الإسرائيلي قادر على خداع نفسه. بل أن خداعه لنفسه ضرورة لبقائه. ولذلك علينا إلا نقنع باقتباس ما يقول وكأنه الحقيقة وعلينا ألا نخاف من مخططاته لأنها هي الأخرى قد تكون من قبيل خداع الذات. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن العدو لا يردد سوى الأكاذيب، ولكنه يعني إلا نندفع لتصديق كل ما يقول، وأن نحكم على كلماته بمحك الواقع.
والله أعلم.
* هذا المقال نشر بـ جريدة الرياض السعودية في 24 فبراير 1984 م الموافق 23 جمادى الأولى 1404 هـ في العدد 5724 السنة العشرون.