رئاسة على صفيح ساخن.. يمكن أن تلخص هذه الجملة الحالة التي يعيشها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد تزايد التكهنات حول احتمالية عزله، وسط تقارير صحفية لمؤسسات معروفة تتحدث إن إجراءات العزل بدأت بالفعل.
من الناحية القانونية والدستورية، فإن الداعين والداعمين لعزل الرئيس المريكي، يعتمدون في أحاديثهم على نصوص مادة الدستور الثانية التي تجيز "عزل الرئيس .. إذا وُجّهت تهم بارتكاب الخيانة العظمى أو تلقي رشاوى أو التورط في جرائم كبرى أو جنح خطيرة، وتمت الإدانة وفق تلك التهم". لكن، يبقى الأمر المهم توافره في هذه المرحلة والحديث هنا عن دور المحكمة العليا المنقسمة عموديا، 4-4، والتي لم تبت من قبل فيما إذا كان ممكناً توجيه اتهام لرئيس البلاد وهو على رأس منصبه.
الحيرة والغموض يزدادان فيما يخص إمكانية عزل ترمب من عدمه، بالنظر إلى قيام المؤسسة الحاكمة بتحصين نفسها، وذلك عبر مذكرة أعدتها وزارة العدل عام 2000 أكدت فيها أن "الإجراءات الجنائية (ضد الرئيس) ستتعارض على نحو لا يمكن السماح به مع قدرته على أداء مهام وظيفته.
وينص الدستور الأمريكي تحديدا على أن من الممكن عزل الرئيس بتهمة الخيانة أو الرشوة أو غيرها من ”الجرائم الكبرى والجنح“.
لماذا نراهن على عدم عزل ترامب؟
العديد من المحللين والمهتمين بالشأن الأمريكي يراهنون على اقتراب عزل ترامب من منصبه، لكننا نراهن على الجانب الآخر، بسبب مجموعة من المعطيات والأسباب، لا نجزم بصحتها، ولا نقول إن رهاننا على عدم عزل ترامب أمر مسلم به، فهو يبقى مجرد محاولة للفهم والتفسير والتخمين وتوقع الخطوات المقبلة.
أما عن الأسباب التي تجلعنا نميل إلى صعوبة عزل ترمب، فيمكن ان نرصدها في النقاط التالية:
1- القرار النهائي بشأن عزل ترمب من عدمه يعود لمجلسي الكونغرس: إذ يجب أن يتبنى مجلس النواب بأغلبية بسيطة (50+1) الدعوة للعزل ورفع توصية بها لمجلس الشيوخ، الذي إن وافق على النظر بها فيحتاج لأغلبية ثلثي الأعضاء (67) للبت فيها.
هذا فيما يخص الخطوات المطلوبة، لكن بالنظر إلى الواقع، سنجد أن أغلبية المجلسين هي بيد الحزب الجمهوري، لهذا يبقى من المستبعد أن يساهم الحزب في تسجيل سابقة قانونية بأن رئيس البلاد المنتمي له يقف مهدداً باجراءات العزل، وأن يكون أول رئيس تم عزله في التاريخ الأمريكي من داخل الحزب، فضلاً عن عدم التيقن من توفر الأصوات المطلوبة للمضي بذلك.
2- إذا نظرنا إلى التاريخ، فسنجد أنه سبق مساءلة رئيسين أمريكيين الأول آندرو جونسون في 1868 والثاني بيل كلينتون في 1998. وفي الحالتين لم توافق الأغلبية المطلوبة في مجلس الشيوخ على عزل أي منهما وبقي الاثنان في موقعهما.
3- لكن، ماذا لو تمت إجراءات عزل ترمب، وسجل ترمب اسمه كأول رئيس أمريكي يتم عزله، فمن سيتولى إدارة شئون البلاد؟ في حالة عزل الرئيس يتولى نائبه قيادة البلاد لحين إجراء الانتخابات الرئاسية العادية التالية، أي أنه في حالة عزل ترمب، سيكون مايك بينس نائبه هو الرئيس الأمريكي بدلا منه. ومن خلال متابعة مايك بينس، يتضح للجميع أن توجهاته السياسية والفكرية لا تفرق كثيرا عن ترمب، بل أنه يزداد ضرواة عن ترامب في كونه مؤمن جدا بمعتقداته هذه، إذ أنه ينتمي إلى التيار الديني المتشدد من "الانجيليين،" وينفذ أجندة التطرف والتعصب ضد كافة الشرائح الاجتماعية التي لا تجمعه بها قواسم مشتركة، فهل يتم التخلص من ترمب الذي حتى لو كان متعصبا بشكل أهوج، ليحل محله متعصب بشكل أيدلوجي؟!
4- بالحديث عن الأيدولوجية، تجدر الإشارة إلى ان القيادات الفاعلة في الحزب الجمهوري ربما لا تميل إلى ترمب ولا تفضله، وربما تراه غير مفيد لها على المديين القصير والمتوسط، ورغم كل ذلك، إلا أنه تبقى حقيقة أن هذه القيادات ليست مستعدة أو مرحبة بعزل الرئيس الجمهوري قبيل إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة في نوفمبر المقبل.
5- بالعودة إلى التاريخ أيضا، وتحديدا في فضيحة الرئيس الأسبق كلينتون في 1998، عندما أصر الحزب الجمهوري على بدء الإجراءات القانونية ضد كلينتون، وما أظهرته القاعدة الانتخابية في الانتخابات التشريعية /النصفية من ضيق ذرعها بتوجهات الكونغرس لتسجيل نصر سياسي ضيق الأفق عوضاً عن تنفيذ سياسات تعالج التحديات التي يواجهها المجتمع. وبالنتيجة، خسر الحزب الجمهوري أغلبيته النيابية في لحظة تشدد سياسي غير مبرر.
6- بالنظر إلى كل المراهنين على إمكانية عزل ترامب، سواء مؤسسات إعلامية كبرى، او حتى دول، سنجد أنها نفسها كانت قد راهنت على نجاح هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وصدرت للعالم استطلاعات رأي تبرهن على اكتساح كلينتون للانتخابات، غير ان النتيجة أثبتت فشلهم الذريع، وأثبتت خطأ رهانهم وتحليلاتهم، واتضح أن كل الاستطلاعات لم يكن لها أدنى علاقة بالواقع، وبالتالي، ما الذي يضمن صحة رهان هذه المؤسسات هذه المرة أيضا، في ظل تمسكها بافتراضات غير واقعية.
7- تبقى الحقيقة التي يتجنبها كثيرون، وهي أن كلفة بقاء ترامب أقل بكثير من كلفة عزله، فالإطاحة بترمب أمر لن يمر مرور الكرام وليس بالشيء الهين، ونعتقد أن المؤسسة الحاكمة تعي جيدا عواقب ذلك ومخاطره.أهم المخاطر أنها ستكون ضربة قاصمة للنموذج الأمريكي السياسي (الديمقراطية) بعد انهيار نموذجها الاقتصادي (الرأسمالية).
8- أيضا، يجب الانتباه إلى أن أتباع ترمب ومؤيديه أشد هوسا وتعصبا منه، وهم بالقطع متيقنين أن ترمب يحارب المؤسسة الحاكمة “عصابة واشنطن” وبالتالي يتوقعون بين لحظة وأخرى التخلص من ترمب، وربما يستعدون لمثل هذه اللحظة. الشعب الأمريكي شعب مسلح وعنيف، وإذا حدث وتمت الإطاحة بترمب، فإن أتباعه المتعصبين المسلحين لن يسكتوا، لن يخرجوا في اعتصامات بالميادين هاتفين “سلمية سلمية”، وربما يقود ذلك البلاد إلى حرب عصابات أو سلسلة اغتيالات.
9- يمكن القول أن أهم عنصرين مؤثرين في السياسة الأمريكية هما المؤسسة الحاكمة، أو ما يطلق عليه بعض المحللين المجمع العسكري الصناعي، واللوبي الصهيوني، وهذان الطرفان تربحا من ترامب أكثر من أي رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فالمجمع العسكري الصناعي استفاد من "بلطجةترمب" في العديد من العقود التي أجبر ممالك الخليج عليها، لدرجة ان تحصل لهذا المجمع على 460 مليار دولار فقط من السعودية في أول أيامه الرئاسية، ناهيك عن باقي الصفقات التي أبرمها لصالح المؤسسة الحاكمة (الينتاجون والشركات)، اما عن اللوبي الصهيوني، فإن ترمب اكثر صهيونية من نتنياهو نفسه، ويكفي أنه يقف بكل ثقل بلاده في صف العدو الصهيوني في كافة الازمات، بداية من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وصولا إلى صفقة القرن.
10- تبقى أيضا حقيقة مهمة يتعمد إغفالها أولئك المراهنون على إمكانية عزل ترمب، وهي أن الاقتصاد الأمريكي تحسن كثيرا منذ مجئ ترمب، ووفقا للأرقام، فإن الإحصائيات تثبت تراجع معدلات إعانات البطالة في صفوف الشباب الأمريكي، وانخفضت البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ 18 عاما.
كما أنه للمرة الأولى من 4 سنوات، سجل نمو الاقتصاد الامريكى تحسنا ملحوظا فى الفصل الثانى وتجاوز حاجز الــ 4%، بحسب التقديرات الاولية لوزارة التجارة.
وإذا كان الشعب الأمريكي يهمه أكثر من أي شيء رفاهيته وتحسن اوضاعه المعيشية والاقتصادية، فإن ترمب نجح في تحقيق ذلك، وبالتالي فلا حاجة له للمراهنة على عزل الرئيس الذي شهد الاقتصاد على يديه تحسنا ملحوظا.