* د. عبد الخالق فاروق
عاشت المنطقة العربية وشعوبها سنوات من الضباب والانحسار، خاصة بعد فترة قصيرة دبت فيها الروح أثناء حرب أكتوبر عام 1973، فها هي المرة الأولى التي تمارس فيها الجيوش العربية، ومن خلفها الشعوب، فعل التحرر من ربقة الاستعمار الإسرائيلي، الذي احتل في ستة أيام فقط أراضي ثلاث دول عربية، بالإضافة بالطبع إلى بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ نكبة عام 1948.
ولم تمر سوى فترة قصيرة، ربما لم تتجاوز شهورًا قليلة، إلا وانخرطت الأنظمة العربية في مصر وسوريا في عملية تفاوض غير متكافئة، ترتب عليها خروج الرئيس المصري أنور السادات من العمل العربي المشترك بزيارته الكارثية للقدس المحتلة في التاسع عشر من نوفمبر عام 1977، وما تلاها من تسوية منفردة وغير متكافئة مع إسرائيل، سواء بتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد في سبتمبر من عام 1978، أو ما سمي اتفاقية السلام المصرية– الإسرائيلية في مارس عام 1979.
وبعدها انفردت إسرائيل والولايات المتحدة تقريباً بكل الترتيبات الجيو–سياسية، والجيو- إستراتيجية للمنطقة العربية كلها، فتعددت الاعتداءات الإسرائيلية على الدول العربية واحدة بعد أخرى، فاحتلت العاصمة اللبنانية في عام 1982، وقصفت المفاعل الذري العراقي في يونيو عام 1981، وقامت بعمليات اغتيال لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية الموجودين على الأراضي التونسية، وساهمت الحماقة لبعض الرؤساء والملوك والأنظمة العربية في توسيع الهوة، وتعميق الشرخ، فاندفع العراق في حرب مجنونة وغير مبررة ضد النظام الثوري الجديد في إيران (سبتمبر عام 1980)، فاستنزفت من قدرة وطاقات البلدين الكثير؛ لأكثر من ثماني سنوات متصلة ومتواصلة.
وبعدها دخل العالم العربي في مزيد من التحطيم، بسبب اندفاع النظام العراقي في اقتحام واحتلال دولة الكويت المجاورة، في الثاني من أغسطس عام 1990، ومن بعدها لم يبقَ شيء على حاله في المنطقة العربية كلها، حيث حوصر العراق لأكثر من ثلاثة عشرة عاماً، انتهت بالغزو والاحتلال الأنجلو– أمريكي للعراق ذاته في التاسع من إبريل عام 2003، وانقسم العالم العربي ودوله بصورة لم يعد من الممكن جمعها مرة أخرى، إلا بتغيير تلك النظم نفسها.
كما تعددت عمليات العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية ومحاصرة مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في إبريل عام 2002، على مرأى ومسمع من العرب والعالم أجمع، ثم على لبنان في يوليو عام 2006، وعلى غزة في ديسمبر عام 2008 ويناير عام 2009، ثم تكرر العدوان على غزة في عام 2012، وعام 2014 لتدمر آلاف المنازل، وتقتل آلاف الفلسطينيين واللبنانيين.
والمؤسف والمثير للسخرية، أنه مع كل عدوان إسرائيلي على لبنان أو غزة أو الضفة الغربية كان الشرخ العربي يزداد اتساعاً لدرجة عجز أنظمتهم السياسية على ترتيب اجتماع تحت مظلة الجامعة العربية سواء في قطر أثناء العدوان على غزة عام 2008، أو في بيروت عام 2006، وبلغ الأمر مأساويته وكوميديته السوداء حينما استأذن وزراء الخارجية العربية من الولايات المتحدة وإسرائيل المعتدية للسماح لطائراتهم بالمرور والهبوط بسلام في مطار بيروت المدمر، وزاد عليها أن وقف رئيس الوزراء اللبناني في هذا الاجتماع ليبكي علناً وأمام الكاميرات..؟؟!!
ووصل الأمر بوزير خارجية إحدى الدول الخليجية بالقول علناً: "بأن علينا أن نتسول السلام من الولايات المتحدة والغرب"....؟؟!!
كما لم يخجل وزراء خارجية ثلاث دول عربية هي مصر والأردن والمملكة السعودية في يوليو عام 2006، ليقفوا علناً ويصطفوا إلى جانب إسرائيل في عدوانها على لبنان، ووصف عمليات حزب الله بأنها مغامرات طائشة ومتهورة.
وعندما تفجرت ثورات الربيع العربي، وتزاحمت الصفوف وراء الصفوف، وامتزجت الدموع بخيوط الدم التي تساقطت من عيون وأجساد آلاف الشباب العربي في تونس (من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 يناير 2011)، وفى مصر (25 يناير 2011)، وفى اليمن (فبراير 2011 )، وليبيا ( مارس 2011 )، والبحرين (مارس 2011 )، وسوريا (مارس 2011 )، وبدا أن موجات الغضب الثوري والشعبي في العالم العربي الذي تعرض للإذلال في العقود الأربعة الأخيرة، في طريقها لموجات غضب أخرى قد تقتلع من الجذور المراكز الرجعية العربية، التي تحتمي بالثروة لتجنب موجات الثورة.
تكتلت القوى الرجعية والأنظمة الخليجية، والدولة العميقة في بعض هذه الدول وخصوصاً في مصر وتونس، لاستعادة مراكزها القديمة ووسائل سيطرتها على أجهزة الحكم والإدارة، وانتهجت في ذلك عدة استراتيجيات من أجل تلويث العمل الثوري الشعبي الذي جرى في الشهور السابقة، فأطلقت وسائل إعلامها وأبواقها أوصافًا من قبيل "الربيع العبري"، و"المؤامرة الأمريكية"، و"النكسة"، و"الخراب العربي"، وغيرها من الأوصاف السلبية، كما التُقطت بعض العناصر الشبابية التي تربحت من ثورات الربيع العربي، فقدمت تسجيلات هاتفية لهم تفيد بهذا المعنى، وتسمي أصحابها- وهم قلة لا يتجاوز عددها العشرات– بالمؤامرة والمتآمرين.
والمحزن أن تتورط قوى محسوبة على حركات المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان وسوريا والعراق في استعمال التوصيفات السلبية نفسها، لمجرد أن رياح الثورات العربية قد مست إحدى قلاع الاستبداد السياسي والديكتاتورية في عالمنا العربي، ألا وهي النظام البعثي في سوريا.
وبصرف النظر عن التحالف القائم بين نظام الحكم في سوريا، وحركات المقاومة منذ سنوات، وهو ما يحسب لهذا النظام إيجابياً، إلا أن الأصل والجوهر هو رغبة الشعوب العربية في استرجاع حرياتها، التي لا تتناقض مع فعل المقاومة ومعاداة إسرائيل.
صحيح أن الثورة الشعبية السلمية في سوريا، قد تحولت إلى فعل إجرامي وإرهابي مسلح وبشع، بفعل تدخل أطراف إقليمية ودولية، لا يعنيها كثيراً الحريات وحقوق الإنسان في سوريا، فدمرت البلد تدميراً، واستنزفت الشعب والحكم في سوريا والمقاومة اللبنانية الشريفة في حرب مدمرة، بيد أن أخطر ما نتج عن هذا الالتباس هو اصطفاف غير مقصود بين قوى المقاومة والتحرير مع نقيضها من أنظمة الحكم الاستبدادية وأجهزة الدولة العميقة في بعض الدول العربية التي نجحت فيها تلك الثورات في أسابيعها الأولى.
وهكذا سمعنا وشاهدنا على شاشات ووسائل الإعلام اللبنانية المحسوبة على المقاومة والتحرير نفس معزوفة الأوصاف السلبية عن ثورات الربيع العربي، وهنا مناط الحزن لدى ملايين الشباب العربي الذين شاركوا في هذه الثورات، وحلموا بالتحرر من أنظمة حكم عميلة للولايات المتحدة والكنز الاستراتيجي لإسرائيل.
مناط التناقض في طرح المعادين لثورات الربيع العربي : قد يكون مفهوماً موقف الحكومات الرجعية المعادية لثورات الربيع العربي، ولكن ما هو غير مفهوم موقف قوى المقاومة والمعبرين عنها إعلامياً في فضائيات مثل المنار والميادين وغيرهما من حيث:
1- القول إن ثورات الربيع العربي هي خراب عربي، يعني مباشرة أن الأوضاع ما قبل ثورات الربيع العربي عام 2011، كانت أفضل حالاً، مما جرى بعدها، وهذا تناقض في الخطاب غير مفهوم وغير مقبول.
2- التلويح من طرف خفي بأن هذه الثورات العربية كانت فعل مؤامرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي رغبت في إجراء تغييرات على أداء أنظمة الحكم العربية، وهذا أيضاً حديث مغلوط، وكأنه يصف الولايات المتحدة بأنها حمقاء لدرجة التنازل والتخلي عن أفضل عملائها وأعوانها في الحكم في مصر وتونس واليمن والبحرين، والذين وصفت إسرائيل بعضهم بأنهم كنز استراتيجي لها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن هذا المنطق يمنح الولايات المتحدة شرف الرغبة والحرص على إجراء تغيير ما في أنظمة حكم فاسدة واستبدادية، وهو ما يخالف كل تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وينزع من جانب ثالث حق الشعوب وقدرتها على التحرك المستقل لإحداث هذا التغيير.
3- إن القائلين بهذه الأقوال الرديئة قد وقعوا في خطأ تحليلي هائل، وهو عدم التمييز بين فعل الثورة الشعبية الجارفة، وعدم القدرة على الاستيلاء على أجهزة الحكم، وتسيير السياسات العامة بعد الثورة، وفقاً لبرامج التغيير الذي تطمح إليه الشعوب العربية المنتفضة، لقد أهمل أصدقاؤنا في الشام حقيقة أن ميزان القوى بين الثورة من جهة وأجهزة الدولة المتحالفة مع قوى اجتماعية وطبقية معادية للثورة ونصيرة للنظام القديم، لم يمكّن هذه الثورات ورموزها السياسية من تولى شؤون الحكم والإدارة، وأن قوى الثورة المضادة قد نجحت في تطويق الثورات الشعبية، واستعادة السيطرة على مقاليد الحكم والإدارة وعودة السياسات القديمة بما هو أسوأ مما كان.
ومن ثم فإن الحكم على الوضع الراهن وإلصاق تهم الخراب والدمار بقوى الثورة هو جهل علاوة عن كونه ظلماً فادحاً.
4- إن خسارة مصر عدة آلاف من الشهداء والجرحى أثناء الثورة المصرية (25 يناير- 30 يونيو 2013)، ومئات غيرهم في تونس، وآلاف آخرين في اليمن والبحرين وليبيا وسوريا، لا ينبغي التعامل معها باستخفاف، بهدف الدفاع عن نظام حكم في سوريا، قد نتفق أو نختلف حول مواقفه وتوجهاته الوطنية والقومية، فلا تظلمونا بجريرة ما جرى من انحراف في الثورة السورية التي تحولت على يد الوهابيين والأتراك والقطريين إلى شيء آخر تماماً، لا نوافق عليه ولم نؤيده يوماً.
الجزء الثانى بعد غد انشاء الله
---
* باحث وخبير اقتصادي