* محمد أبو الغيط
قبل سنوات لما شفت وثائقي “سيتزن فور” اللي اتصور مع ادوارد سنودن، الموظف المنشق عن وكالة الأمن القومي الأمريكية، علق في راسي مشهد لا أنساه.
سنودن كان أكد على الصحفيين ألا يحملوا أي جهاز الكتروني معاهم، لما دخل أوضة الفندق لقى فيها تليفون أرضي، اتفزع وفصله قبل ما يبدأ كلام .. الصحفيين بصوا لبعض وقالوا هوا ممكن حد يسمعنا من التليفون ده وهوا مقفول؟! قالهم ايوة وما هو أكثر..
كان ضمن ما كشفه سنودن برنامج “بريسم”، وخلاصته هوا قدرة تحالف العيون الخمس (مخابرات الدول الناطقة بالإنجليزية، أمريكا، بريطانيا، كندا، أستراليا، نيوزيلاندا) على النفاذ المباشر لسيرفرز كل الشركات الكبرى تقريبا (مايكروسوفت، ياهو، جوجل، أبل، فيسبوك، يوتيوب، سكايب، بالتوك…الخ).
كمان وثائقه كشفت إن وكالة الأمن القومي الأمريكية احتفظت ببيانات ملايين من مواطني حلفائها أنفسهم وده عمل أزمة وقتها في كندا وألمانيا بالذات.
لاحقا ظهر إن القدرات لا تقتصر على اختراق الهواتف المحمولة واستخدام ميكرفوناتها وكاميراتها لبث ما حولها، بل تمتد أيضا لأي جهاز سمارت بما فيها التلفزيون.
بعض القدرات ظهر مؤخرا إنها ليست بيد المخابرات الأقوى فقط، بل شركات خاصة على رأسها "إن إس أو" الإسرائيلية اللي طورت برمجيات متطورة أمكنها اختراق واتساب، واتباعت للعديد من الدول، وتم استخدامها لاختراق هواتف نشطاء ومعارضين بمنطقتنا العربية الجميلة.
"سيتزن لاب" في كندا نشر أكثر من تقرير تقني مهم عن ذلك.
ومن أشهر القصص عالميا اختراق هاتف جيف بيزوس مالك أمازون وواشنطون بوست، والفحص التقني رجح إنه تم عبر رسالة واتساب وصلته من هاتف محمد بن سلمان شخصيا.
..
لذلك أنا فعلا مش فاهم ما سبب رد الفعل الواسع من واتساب اللي هوا شيء هامشي جدا.
إيه اللي هيتغير؟
حاليا بالفعل موجود ألجوريزم ألكتروني على فيس بوك لتوفير الإعلانات الموجهة، مثلا لو كتبت لمراتي على الماسنجر عايزين نشتري سجادة زرقاء، هلاقي قدامي على فيس بوك إعلانات سجاجيد زرقا (حدث بالفعل).
واتساب قالوا إنهم هيحتفظوا بتشفير المحادثات، ولن يشاركوا محتواها مع فيس بوك، لكن سيشاركوا البيانات المتعلقة بالاستخدام الإعلاني، رقم الهاتف والموقع، ومحتوى التواصل مع جهة تجارية..الخ.
يعني دلوقتي اني لو كتبت على واتساب أيضا اننا عايزين سجادة زرقا هشوفها برضه على فيس بوك؟ طيب ما بالفعل فيس بوك المملوك لنفس الشركة عنده نفس البيانات.
بل أنا بصراحة باعتبر الإعلانات الموجهة دي حاجة لطيفة توفر وقتي وجهدي، علما بأنها خالية من أي دور بشري، بالظبط زي اختيار ما يظهر على تايملايني هو ألجوريزم الكتروني يحاول التنبؤ بتفضيلاتي، وأنا باحب هذه الاختيارات عادة، ولو اختار غلط باتدخل يدويا ليتعلم ماشين ليرننج أحسن لصالح راحتي.
..
اللي عايز أقوله ان الوضع الحقيقي القائم أكبر من التفاصيل دي، وهوا ان كل بياناتنا، عرضة للانتهاك لو جهة قررت استهدافك بشخصك.
مهو الصورة اللي حضرتك شايفها في محادثة واتساب أو ماسنجر دي ليست محلقة في الفراغ، بل هيا موجودة على سيرفر له وجود مادي، طول وعرض وارتفاع، في الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها.
..
وهنا أنا كمان مش فاهم موقف الانسان الذي يعيش في دولة عربية فعلا مشكلتك هيا ان واتساب هيظهرلك إعلان؟
بشكل روتيني أي محادثة داخل بلادنا محمول أو أرضي يمكن للأجهزة الأمنية سماعها، وأي مراسلة موبايل غير مشفرة بتمر عبر أبراج الاتصالات المحلية هيا أيضا ممكن قرائتها.
شركات الاتصالات من المنبع تحت السيطرة تماما.
ده حالنا من زمان، وكلنا نفتكر حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق في آخر حوار له مع مفيد فوزي سأله بيقولو انكو بتراقبو التلفونات، فبدل ما يقوله شعارات عن الدستور والقضاء، راح ضحك وقال "اللي يخاف ميتكلمش"
وبعدين في محاكمة العادلي اتكلم بكل بساطة وقناعة انه أيوة كنا بنسمع وبنسجل كل حاجة، وان ده كان عشان البلد، وانه لو مثلا لقينا علاقة غير شرعية ممكن نكلم البنت ننصحها ونقولها عيب، "أهو منه مكافحة، ومنه تجنيد!!"
وبالمثل في تونس بعد الثورة ظهر ان أجهزة بن علي الأمنية كانت بتقدر تخترق إيميلات وأجهزة التونسيين.
عالميا نفس الوضع قائم، ومن زمان جدا اتكشف برنامج "ايشلون" الأمريكي اللي خلاصته ببساطة انهم بيسمعوا كل مكالمات الكرة الأرضية.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة. هما واجهوا مشكلة ضخامة حجم المعلومات.
مليارات الاتصالات مستحيل بشر يسمعها.
لذلك طورو برمجيات تبحث عن الكلمات المفتاحية المقلقة زي "قنبلة"، "تفجير"...الخ، والمكالمات المريبة دي فقط اللي ممكن بشري يفحصها.
وبآلية مشابهة فيس بوك يحظر الكترونيا البوستات المخالفة للستاندردز، إلا لو تظلمت بشريا ربما يشوفها موظف فعلا في مرحلة لاحقة.
وبالمناسبة ال"جي بي إس" اللي بتستخدمه عشان توصل مشاويرك هوا أصلا مشروع عسكري أمريكي سري بدأ سنة ١٩٨٧، ومتأخرا جدا قرر الرئيس كلينتون سنة ٢٠٠٠ إتاحته مجاناً للاستخدام المدني العالمي، بنفس الأقمار الصناعية العسكرية - وانتقل الجيش الأمريكي لأنظمة أكثر دقة.
..
يعني حماية المواطن العادي تأتي من كونه عادي، بياناته هتتوه وسط مليارات البيانات.
محدش في السي آي إيه مهتم يعرف شيماء من أبوكبير طابخة إيه لجوزها، أو الحاج عبدالعزيز من كفر طهرمس اتخانق مع ابنه ليه.. لكن ربما سيادة الرائد مجدي هوا اللي يهتم يعرف هذه الأمور!
...
لذلك بأضحك كل ما أشوف حد بيهتف بحرقة أين الحكومات من انتهاك مواقع التواصل لبياناتنا؟
اطمن يا حبيبي الحكومات داخلة من زمان بكل قوتها، مش مستنية ندائك، وانتهاكها المحتمل لبياناتك وخصوصيتك أكبر وأخطر.
انتا واخد بالك بتستغيث بمين؟!
كل ده ومتكلمناش عن النماذج الخشنة.
الحكومة الصينية قالوا احنا هنمنع بيانات الصينيين تتحفظ خارج الصين، وحصلت خناقة مع شركة أبل انتهت باستسلامها لحفظ بيانات مستخدميها الصينيين داخل سرفرز صينية وبشراكة شركة محلية قريبة من الحكومة. لا أظن ان المواطن الصيني المطحون بقى أكثر أمانا كده خالص!
أيضا الحكومة الصينية طلبت بصريح العبارة من جوجل توفير أبواب خلفية بمنتجاتها، لما رفضوا تم حظر جيميل ويوتيوب وبالمثل فيس بوك وواتساب وتويتر. حاليا المواطن الصيني بيستخدم تطبيقات صينية بديلة (بايدو، ويتشات، ويبو..) والمالك شركات صينية مملوكة لمقربين من الحزب الشيوعي الصيني.
الأخ الكبير يعد أنفاسك.
في روسيا السيد بوتن معجبوش انتشار استخدام تليجرام، الحكومة طلبت من مطوري الآب تسليم رموز التشفير وش كده، رفضوا، فخاضوا حرب تقنية وقانونية، شملت حظر ملايين من عناوين الآي بي المرتبطة بالخدمة، إزالة تليجرام من يانديكس أكبر محرك بحث روسي.
في الآخر تم رفع الحظر في ٢٠٢٠ بعد اتفاق غامض تم بين مطوري البرنامج وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي "للمساعدة في مكافحة الإرهاب والتطرف على المنصة".
طبعا في مصر عندنا نسختنا الخاصة من ان أمين شرطة مزاجه يطلب معاه يوقفك في كمين ويقولك افتح موبايلك، ومفهوم ان اللي يرفض جسده هيتم انتهاكه مش خصوصيته الرقمية بس.
طريقة أصيلة تتجاوز كل اعدادات التشفير بكفاءة.
...
الخلاصة:
إحنا قالعين بالفعل..
ده ثمن الحصول على مزايا الاتصال والتواصل الواسع المجاني بعصرنا. زي ما كان تمن البث التلفزيوني المجاني إنك تشوف الإعلانات في وسط الفيلم أو المسلسل.
لذلك أنا عملت موافقة لمشاركة الأستاذ واتساب إلكترونيا لبياناتي غير المهمة إلى الزميل فيس بوك، وسعدت باعلانات السجادة الزرقاء.
..
نعمل إيه؟
نعمل اللي بيدنا فيما يهمنا.
من زمان أي شيء حساس في شغلي الصحفي باستخدم للتواصل به برامج مشفرة ومؤمّنة (أفضل سيجنال)، وللايميلات بروتون ميل. أيضا لتعمية التصفح يمكن استخدام في بي إن (أفضل نورد) وتور براوزر، ولنقل الملفات أستخدم فيرا كريبت، وغيرها.
ده غير طبعا المدرسة القديمة، أولد إز جولد، أي مقابلة حساسة الموبايلات بتتساب برة الأوضة. الموبايل بحد ذاته هوا الخطر أيا كانت الأبلكيشنز أو الإعدادات. وده بيحصل باجتماعات السياسيين في مصر من قبل الثورة.
(ضمن الإجراءات الأولد جولد أيضا ان الباسووردز مكان حفظها يبقى ورقة في محفظتك، ليس جهازك، وليس حتى ذاكرتك- طبعا بشرط ألا تكون محفظتك عرضة للسقوط بيد حد غيرك)
وأنا بكل تصالح مع الواقع باتعامل ان هذه الإجراءات غرضها مقاومة وصول أي جهة عربية للمستهدف، أما السادة فوق جبال الأوليمب فقناعتي أن عندهم قدرة على الوصول لكل شيء لو استهدفوا أي شخص بعينه.
وده مش بس قياس منطقي لأن سنودن بكل القدرات المهولة اللي كشفها كان في ٢٠١٣، فمابالنا بما تطور الآن، بل أيضا بناء على ما ينكشف من وقت لآخر.
مثلا ما ظهر في ٢٠١٦ عن "العملية تورنيدو" المثيرة للجدل الأخلاقي والقانوني وفيها مكتب التحقيقات الفيدرالي اخترق أشخاص يستخدموا متصفح تور المشفر الآمن، لزيارة مواقع المحتوى الاباحي للأطفال (بيدوفيليا) في الانترنت العميق (الديب ويب). سيطروا على ٣ مواقع سابوها شغالة ١٣ يوم ثم اصطادوا كل من رفع مواد أو شافها أو عدا جنبها.
طيب يا سيد إف بي آي فين البرمجية الخطيرة اللي استخدمتوها بالعملية؟ قالو لا والله تعيش انتا دي مش شغالة دلوقتي. احلف وحياة زحلف.
إذا كان دي قدرة مكتب التحقيقات الفيدرالي فمابالنا بقدرة المخابرات المركزية؟
ولو ده المدى اللي وصلوله تتبعا لجريمة جنائية، يبقى المدى فين لمكافحة الإرهاب أو منافسة خصوم الأمن القومي الصينيين والروس في نفس الملاعب؟
ومؤخرا السنة اللي فاتت ٢٠٢٠ ظهرت "فضيحة كريبتو" وخلاصتها أن المخابرات الأمريكية كانت مخترقة لعقود طويلة شركة تشفير سويسرية متخصصة في بيع أنظمة الاتصال المؤمنة للحكومات والجيوش حول العالم، وزبائنها يمتدو إلى ١٢٠ دولة.
يعني السادة الرؤساء والقادة والأركان ظهر أنهم قالعين برضه.
ده غير مجال جديد يتسرب عنه معلومات محدودة وهوا اختراق ال Air gapped يعني الأجهزة غير المتصلة بأي انترنت أو تليفون، ده تحديدا نمط الاختراق المرجح إنه تم تنفيذه ضد أجهزة البرنامج النووي الإيراني.
اللي خايف ميتكلمش فعلا..!
ملحوظة: السجادة معجبتناش ورجعناها، فطلعلي اعلان سجادة تانية بتصميم بديل زي اللي كنت بادور عليه يليق على مشاية الطرقة. الله ينور يا أستاذ ألجوريزم. حبيبي تسسسسسلم 🙌
---
* صحفي مصري - المقال نقلا عن حسابه بفيسبوك