* محمد أبو الغيط
"هوا انتا متعرفش إنهم سلمونا اللي طلبناهم؟ لو متعرفش أقولك. حماس سلمتنا عناصر إرهابية شاركت في أعمال إجرام، وأكتر من كدة، قفلوا كل الأنفاق الكبيرة من جانبهم، وأزيدك من الشعر بيت، سلمونا سيارات الشرطة اللي سرقوها في 2011. أكتر من كدة إيه؟"
كان هذا جزءا من سرد مفصل قدّمه الإعلامي المصري، أحمد موسى، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 لجمهوره، ليبرّر لهم التناقض بين وصفه مرارا "حماس" بالإرهاب واستقبال مصر وفد "حماس" برئاسة إسماعيل هنية، في إطار جهود المصالحة الوطنية.
اقرأ ايضا: "باع النيل"| كيف أهدر السيسي حقوق مصر التاريخية في نهر النيل عندما وقع على اتفاقية المبادئ مع أثيوبيا في 2015؟
وقعتها عقدت حكومة رامي الحمدلله أول اجتماع لها في غزة، وتزامن ذلك مع احتفاء مصري غير مسبوق، حتى أن وفداً أمنياً وإعلامياً مصرياً زار القطاع، وقدّم عادل حمودة ولميس الحديدي وعمرو أديب برامجهم من غزة، حيث بث أديب لقاءً مع هنية، في أفضل تقديم لخط العلاقات الجديد مع "حماس" إلى الجمهور المصري.
إذن، لا مفاجآت اليوم في 2021 من الموقف المصري الرسمي نحو "حماس"، إلا لمن ما زال متكلساً عند مراحل سابقة.
حقا تدهورت العلاقات بشدة بعد عزل الرئيس محمد مرسي عام 2013، وشهدنا حملات أمنية وإعلامية، لكن التواصل استؤنف في مرحلة مبكرة جدا، منذ عام 2014، بل إن الحكومة المصرية نفسها هي من قدّمت الطعن ضد حكم صادر من محكمة مصرية عام 2015، بإدراج "حماس" جماعة إرهابية، وتم إلغاء الحكم خلال شهرين فقط!
تقدم التقارب في 2016، حتى أن مصر استقبلت موسى أبومرزوق، وأكد في حوار صحافي أن "العلاقة بين القاهرة وحماس في أفضل حال"، مؤكداً الاتهامات التي تم توجيهها سابقا للحركة "قد عفا عليها الزمن".
تزامن ذلك مع تعديل حماس لميثاقها التاريخي الصادر عام 1988، وحذفت من وثيقتها السياسية الجديدة كل إشارة للإخوان المسلمين، بينما كانت الجماعة مذكورة في الميثاق القديم 7 مرات.
اقرأ ايضا: المقاومة السلمية للاحتلال! ماذا يخبرنا الواقع والتاريخ؟
ثم بدءا من 2017، دخل الطرفان في ما يمكن اعتباره تحالف قتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء وغزة، والذي كان عن حق عدواً مشتركاً شيطانياً.
في يونيو/ حزيران 2017، أعلنت داخلية غزة إنشاء منطقة عازلة بطول حدود القطاع مع مصر. وفي أغسطس/ آب من العام نفسه، قُتل نضال الجعبري، أحد عناصر حماس، في تفجير انتحاري ارتكبه داعشي كان يحاول عبور الحدود إلى مصر. في جنازته توعد قادة حماس بقتال "أئمة الكفر" الذين قتلوه، وهم هنا العدو المشترك مع مصر: ولاية سيناء.
بالمقابل توعدت "داعش" حماس مرارا، بثوا مشاهد إعدام أحد عناصر حماس، وفي إصدار آخر أعدموا عنصراً داعشياً لأنه هرب أسلحة لحماس، وشددوا أنهم منعوا من جانبهم تهريب البضائع والسلاح!
وهكذا في 2018، حين شهدت غزة جولة تصعيد عسكري حيث انهال القصف الإسرائيلي، ورشقت "حماس" إسرائيل بالصواريخ، بعد عملية عسكرية برّية إسرائيلية مفاجئة في خان يونس، انتهت الجولة بسيناريو مصغر لنفس ما حدث مؤخرا.
حدث اتفاق وقف إطلاق نار بوساطة مصرية، تبعتها زيارة وفد من المخابرات العامة إلى القطاع، وظهرت حينها الصورة الشهيرة للواء أحمد عبدالخالق يقبل يد أحد أبناء شهداء حركة حماس في عملية خان يونس، بعد مشاركته في حفل تأبين لهم.
خلال السنوات الأخيرة، تبادلت قيادات المخابرات المصرية وقيادات حركة حماس الزيارات مرات، شمل ذلك احتفاءً متبادلاً، وكذلك تنسيقاً في ملفي مواجهة ما سميت "صفقة القرن"، والمصالحة الفلسطينية.
في 2019، تم استقبال إسماعيل هنية في القاهرة بزيارة مطولة، شملت لقاءاً مع شيخ الأزهر، واستقبال د.عبدالمنعم السعيد وعبداللطيف مناوي له في مقر صحيفة المصري اليوم، حيث تحدّث مطولاً عن توافق تام مع مصر في رفض خطة ترامب الموهومة.
وقد بدا واضحاً في الآونة الأخيرة إن مصر الرسمية تهمش من دور السلطة الفلسطينية ورئيسها أبومازن، بعد ظهور دوره المعرقل في ملف المصالحة، حتى أن إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي تخصيص 500 مليون دولار لإعادة الإعمار في قطاع غزة تم من دون أي إشارة للسلطة الفلسطينية، والإشارة الأهم سبقت ذلك في فبراير/ شباط الماضي، حين أعلنت مصر فتح معبر رفح من دون أجل مسمى، دون أي اشتراط لوجود مراقبين من السلطة أو دوليين، بخلاف تشدد مبارك الدائم سابقا في هذا الشرط بموجب اتفاقية المعابر الموقعة في 2005.
اقرأ أيضا: هل نستبشر خيرا بالسيسي؟.. قراءة في الموقف المصري تجاه غزة بناء على التصريحات الرسمية الأخيرة
هذا هو السياق المتسق تماما، الذي يمكن تأتي بعده دوافع سياسية راهنة مؤثرة، كرغبة مصر التلويح بأوراق قوتها، احتجاجاً على الموقف الدولي السلبي في أزمة سد النهضة، وكذلك على تجاهل الرئيس الأميركي بايدن منذ توليه ولايته الاتصال بالرئيس السيسي. (اتصل به خلال الأيام الماضية مرتين، ووجه له الشكر في خطاب عام، بعد تجاهل تام استمر أشهراً)
أسرف كارهون للنظام المصري وكارهون لحماس في اتخاذ المواقف الحدية المطلقة، وقد سدّوا العيون والآذان عن كل ما يناقض ثنائية الملائكة والشياطين، والأبيض والأسود، ليقف كلاهما فجأة مصدوماً.
بينما للمفارقة أصحاب الشأن نفسه، النظام المصري وحماس، تحليا ببرجماتية مطلوبة سياسياً، وأدرك كلاهما بسرعة حدود الاتفاق والاختلاف، وموازين القوى ومقتضيات الظروف، وإمكانية تحقيق المكاسب وتخفيض الخسائر.
من لا يرى واقعه لن ينجح أبداً في تغيير مستقبله.
* صحفي مصري