شهدت الأرجنتين فى مطلع الألفية الجديدة انخفاضا حادا فى معدلات النمو، وارتفاعا غير مسبوق فى معدلات كل من الدين الخارجى (قدرت بنحو سبع إجمالى ديون العالم الثالث آنذاك)، والتضخم، والبطالة، وانهيار سعر صرف العملة المحلية (البيسو) أمام الدولار.
انكماشا فى الاقتصاد الكلى تمثل فى تحقيق معدلات نمو سلبية خلال الفترة من 1999/2002، وهو ما عرف فى أوساط الاقتصاد العالمى بـ«أزمة إفلاس الأرجنتين».
●●●
عانت الأرجنتين من أزمات اقتصادية بالتزامن مع الحكم العسكرى خلال الفترة من 1976/1983، بعد اتجاه الرؤساء المتعاقبين لإطلاق خطط طموحة للتنمية بأسس يمينية ونيو ــ ليبرالية اعتمدت بالأساس على الاقتراض من الخارج لتمويل الاتجاه للتصنيع وهو ما عرف بعملية إعادة التنظيم الوطنى، بيد أن هذه الخطط صادفت تعثرا على خلفية عدم الاستقرار السياسى داخليا، وارتفاع أسعار النفط فى أعقاب حرب أكتوبر، وهزيمة الأرجنتين أمام بريطانيا فى حرب الفوكلاند. وقد وقع الاقتصاد الأرجنتينى تحت ضغوط كبيرة جراء تلك السياسات الاقتصادية ــ أبرزها ارتفاع معدلات التضخم والبطالة والاستمرار فى الاستدانة من أجل مواصلة التنمية ــ والتى استمرت فى أعقاب انتهاء الحكم العسكرى وبدء التحول الديمقراطى فى البلاد فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى.
●●●
انفجرت الأوضاع بحلول عام 1999، حيث وصل متوسط الدين إلى مستويات غير مسبوقة (132 مليار دولار تقريبا) فى ظل تثبيت سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، وانخفاض تدفقات النقد الأجنبى بعد الانتهاء من خصخصة أغلب الشركات الوطنية، وارتفاع معدلات الإنفاق الحكومى ومعدلات خروج رءوس الأموال من السوق، كذلك إقليميا عانت كل من البرازيل (الشريك التجارى الأكبر للأرجنتين) والمكسيك من أزمات اقتصادية أضعفت الثقة فى اقتصاديات أمريكا اللاتينية بصفة عامة، مما أدى لانخفاض معدلات النمو بصورة قياسية بدءا من عام 1999، ودخول الاقتصاد فى مرحلة انكماش لم يخرج منها قبل عام 2002/2003، حيث عجزت الأرجنتين فى تلك الفترة عن سداد أقساط الديون والفوائد الخاصة بأذون الخزانة، وانخفض تصنيفها الائتمانى بشكل استحال معه اللجوء للاستدانة مجددا من المانحين الدوليين، واضطرت الحكومة لإعلان إفلاسها وعجزها عن تسديد ديونها الخارجية، واتخذت إجراءات تقشفية شديدة الوطأة أبرزها تخفيض الإنفاق الحكومى متضمنا الأجور والمعاشات وزيادة الضرائب ورفع أسعار السلع الأساسية فى ظل ظرف سياسى غير موات، مما أدى لانفجار الأوضاع فى ديسمبر2001 بشكل كامل، بحيث تعاقب على حكم الأرجنتين ثلاثة رؤساء فى الفترة من 1999/2002.
●●●
قامت حكومة الرئيس إدواردو دوهلديه (Eduardo Duhalde) ــ والذى انتُخب فى 2002 ــ باتخاذ عدد من الإجراءات المتوازية: فعلى الصعيد الداخلى تبنت الحكومة إجراءات تقشفية حادة وإصلاحات هيكلية، أبرزها مصادرة جميع الودائع الدولارية فى البنوك وتحويلها إلى ودائع بالعملة المحلية وتعويم العملة مما أدى لانهيار قيمتها أمام الدولار، وهو ما زاد من الصعوبات المعيشية للمواطنين، وتحسين نظم التحصيل الضريبى وتشجيع الاتجاه للتصنيع والتصدير، كما دعمت الحكومة التعاونيات لإنقاذ الشركات المتعثرة، ووجهت الأموال المخصصة لصالح خدمة الدين (سداد أقساط الديون وفوائدها) إلى سد الفجوة التمويلية جراء عدم إمكانية الاقتراض من الخارج وتوقف الاستثمارات الأجنبية، وبذلك تمكنت من تمويل عدد من المشروعات الهادفة للتصدير مستفيدة من انخفاض سعر العملة المحلية الذى رفع من تنافسية الصادرات الأرجنتينية، وأدى إلى معاودة الاقتصاد للنمو بحلول عامى 2003/2004. بينما على الصعيد الخارجى تفاوضت الحكومة مع المانحين الدوليين على جدولة الديون، وبدأت ــ منذ 2005 ــ فى مراكمة احتياطات من النقد الأجنبى على خلفية ارتفاع عوائد الصادرات (وخاصة الزراعية مثل فول الصويا الذى تعد الأرجنتين ثانى أكبر منتج له عالميا)، واستخدمت تلك الاحتياطات فى سداد بعض أقساط الديون الخارجية وخاصة ديون صندوق النقد، وذلك بهدف الاستعادة التدريجية للثقة فى قدرات الاقتصاد الأرجنتينى الذى استعاد عافيته بالتدريج إثر استقرار الأوضاع سياسيا بانتخاب الرئيس/ نستور كريشنر 2003، واقتصاديا بسداد أقساط الديون بدءا من 2005، وتمكنت الأرجنتين بالفعل من سداد جزء كبير من ديونها لصندوق النقد الدولى بحلول عام 2008، وإن مازالت تواجه بعض الصعوبات فى الاقتراض الخارجى إلى الآن.
●●●
تبدو الصورة فى مصر 2013 للأسف غير بعيدة عن الأرجنتين 1999/2002 بالنظر لارتفاع عجز الموازنة لمستويات قياسية (12% على الأقل من الموازنة العامة)، وارتفاع مستويات الدين الداخلى (نحو 1.2 تريليون جنيه) والخارجى (ما يزيد على 35 مليار دولار)، والخفض المتوالى للتصنيف الائتمانى لمصر (وآخرها وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية)، والاعتماد الكامل على استيراد السلع الغذائية والوقود فى ظل تناقص السيولة النقدية وتآكل احتياطات النقد الأجنبى، مع العلم بأن الوضع الاقتصادى مرشح لمزيد من التردى خلال فصل الصيف على خلفية الارتفاع المتوقع للطلب على الغذاء والطاقة.
ولن أخصص تلك المساحة للإسهاب فى اقتراح حلول اقتصادية للأزمة وذلك لسببين:
الأول: قيام من هم أكثر منى تخصصا فى مجال الاقتصاد ــ على تباين المدارس الاقتصادية التى ينتمون إليها ــ أكثر من مرة بطرح حلول واقعية للأزمة من دون استجابة أو حتى فتح باب النقاش حول تلك الأفكار.
الثانى: أن أى حل اقتصادى مهما بلغت عبقريته لن يسهم فى حل الأزمة فى ظل عدم الإقرار بأن الثورة قامت بالأساس على خلفية أزمة اجتماعية متفاقمة تتمثل فى عجز «النظام» بانحيازاته السياسية والاقتصادية السابقة والحالية عن تمثيل شرائح مجتمعية واسعة، بل وقيامه بإقصائها من الصورة تماما.
إن الخروج من الأزمة يتطلب تغييرا فى الإدراك Paradigm shift يبدأ تحقيق مصالحة سياسية بشكل فورى تقتضى إعادة النظر فى ترتيبات المرحلة الانتقالية منذ 11 فبراير 2011، والتوافق حول تعديل الدستور وقوانين الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية والنقابات والجمعيات الأهلية، وإلغاء الإعلان الدستورى الصادر فى 22 نوفمبر 2012 بكل آثاره، والبدء الفورى فى إعادة هيكلة وزارة الداخلية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تتمتع بدعم شعبى يمكنها من اتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة لا غنى عنها فى إطار رؤية شاملة لأزمة اقتصادية شديدة التعقيد.
من دون ذلك التغيير فى الإدراك، فإن مصر مقبلة على طوفان أكبر مما شهدته الأرجنتين للأسف.