آلاف في الأرجنتين يحتجون بسب التفاوض مع صندوق النقد |
بقلم: عبده فايد
إن كنت متابعًا للتلفزيون المصري في رمضان..ستجد أن هناك إعلانات تُبث لإقناع المواطن بتحمل الزيادات الكارثية المُقبلة في أسعار الوقود..أحد تلك الإعلانات، والذي ربما يأتي برعاية جهاز سيادي، هو المتعلق بتجربة البرازيل والأرجنتين، باعتبارها وصفة لنجاح صندوق النقد، وأن شعوب تلك الدول احتملت وساندت الحكومة، إلي أن عبرت لبر الأمان..تستطيع أن تأخذ هدنة من متابعة قنوات الاجهزة السيادية، وتبدأ إذن بقراءة كتاب يوضح لك بالتفصيل..كيف أغرق صندوق النقد الدولي الأرجنتين في أزمة إفلاسها الشهيرة عام 2001..التجربة التي يستذكرها الأرجنتينيون بمرارة، وكانت محفزًا لهم علي التظاهر قبل 5 أيام ضد خطط حكومية لاتفاق جديد مع الصندوق.
الأرجنتين التي كانت إحدي أغني دول العالم في ثلاثينات القرن العشرين..خضعت خلال الفترة من 1956-1999 إلي 19 برنامج إصلاحي لصندوق النقد..مثلًا الجنرال خورخي فيديلا استجاب لوصفة الصندوق منذ العام 1976..حرر القطاع الاقتصادي والمالي من القيود الحكومية، خصخص المشاريع العامة، خفض الأجور، وبالطبع حرّم الإضراب عن العمل..المستفيد كان الشركات الأجنبية التي ساندت الديكتاتور..وعندما سقط النظام العسكري في الأرجنتين..كان الجنرالات قد تحولوا لرجال أعمال وأصحاب ملايين..اقتصاد الدولة؟..الديون الخارجية ارتفعت من 7 مليار إلي 43 مليار $..والناتج الصناعي انخفض بنسبة تناهز 40%، بينما انخفض حجم الأجور من 43% إلي 22%.
جاء الرئيس الجديد راؤول ألفونسين..وجد أمامه معدلات تضخم مرتفعة، وقطاع صناعي مُحتضر..لكن مع ذلك نفّذ تصورات الصندوق..عملة جديدة وأجور مُجمدة وفقًا لخطة Austral..لكنه ماطل في تنفيذ إجراءات أخري..لم يُسرح العدد المطلوب من الموظفين، وأحجم عن خصخصة ثلاث مشاريع حكومية، بسبب انتفاضة شعبية ضده..حجم الإضرابات في عهده كان قياسيًا في العموم..4000 إضراب عن العمل و15 إضراب عام..كيف ردّ الصندوق؟ علّق والمصارف الأجنبية قروضًا للأرجنتين لإجبار ألفونسين علي الاستقالة، وتولي وريث جديد، يكون أكثر توافقًا مع صندوق النقد..كان لهم ما أرادوا.
كارلوس منعم رئيسًا..طبق أقسي برامج التقشف في تاريخ أميركا اللاتينية..برنامج الصدمة..تسريح مئات ألوف الموظفين، خصخصة القطاع المصرفي، بيع شركة الخطوط الجوية الأرجنتينية، وكذلك شركة البترول YPF إلي مستثمرين أجانب بأرخص الأسعار، وكذلك فرض ضريبة القيمة المُضافة وربط البيزو بالدولار..والأمر الأخير أدي لثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد الأجنتيني..معدلات نمو عالية، مرتبطة بمعدلات إقراض تاريخية في العامين 91-92..أغرقت بيونس أيرس في الديون..لم يتوقف كارلوس منعم عن الخطة..حوّل ديون الشركات العامة إلي شركات أجنبية في إطار ما عُرف بخطة برادي، وخفّض ضريبة الشركات لنحو 33% رغم أن معدلها آنذاك في الولايات المتحدة وصل لسقف 45%..تدفق هائل للأموال الأجنبية، التي تنقل أرباحها خارج الاقتصاد الأرجنتيني..سرعان ما انهارت الفقاعة.
عام 1995 اندفع المستثمرون الأجانب لسحب رؤوس أموالهم..أفلست عشرات المصارف الصغيرة..مُعدل البطالة وصل في غضون أسابيع إلي 18%، ومعدل نمو الإقتصاد تراجع لما دون الصفر..رد فعل صندوق النقد؟ إشادة أمام العالم بالأرجنتين بوصفها التلميذ النموذجي لبرامج التكيف الهيكلي..ولم لا؟ وقد استفاد المستثمر الأجنبي من السيطرة علي 40% من مشاريع الأرجنتين، و90% من مصارف البلاد، وضخ للاقتصاد الأرجنتيني 49 مليار $، تُنفق علي خدمة ديون المستثمرين الأجانب أول بأول..ستجد بالمناسبة نص إشادة مدير صندوق النقد ميشيل كامديسوس بتجربة الأرجنتين في الإنضباط المالي لإعادة الهيكلة في ص: 40 من فصل ألّفه بيت نورث تحت عنوان ‘‘شبكات المقايضة ومقاومة الليبرالية الجديدة في الأرجنتين‘‘ وهو الفصل الأول من كتاب ‘‘العدالة الإجتماعية والليبرالية الجديدة: منظورات عالمية‘‘.
فيرناندو دي لاورا يتولي رئاسة الأرجنتين عام 1999..بعد 19 برنامج إصلاحي مع الصندوق..كان محتمًا عليه وراثة وضع اقتصادي بالغ التدهور..37% من الشعب تحت خط الفقر..و114 مليار $ هي حجم ديون الأرجنتين الخارجية..الصندوق يتدخل لإنقاذ الأرجنتين؟..طبعًا..قرض بقيمة 7,2 مليار $..بشرط..تخفيض عجز الموازنة من 7,1 مليار $ إلي 4,7 مليار $..أي تقليص الإنفاق الحكومي وبالأخص في مجال الرعاية الإجتماعية بقيمة 2,4 مليار $ في بلد أصبح 14 من أصل 36 مليون من سكانه تحت خط الفقر..الصندوق يتدخل من جديد للحيلولة دون تفاقم مستوي الدين الخارجي..قرض جديد ب 39 مليار $..بشرط..تحرير القطاع الصحي، وإلغاء القيود في مجال الاتصالات.
طفح الكيل بالناس..أغلقوا مداخل العاصمة التي تربطها بباقي الدولة..الحكومة تمادت..وعدت المستثمرين الأجانب بتسديد مستحقاتهم، ومنحتهم فوائد بأكثر من 50%..في حين اعتزمت تخفيض الإنفاق ب 1,6 مليار $ إضافي..وبينما سمحت للمضاربين والمستثمرين الأجانب بتهريب 15 مليار $ للخارج..حظرت بيونس آيرس علي مواطنيها سحب أزيد من 250 $ من مدخراتهم..كان الوضع في صيف 2001 بالغ السوء..انخفض الإنتاج بنسبة الربع، وشُرد سدس العاملين في الشوارع..توجهت الحكومة من جديد للصندوق..رد فعله؟ رفض حتي التباحث أو دفع الباقي من قيمة القرض، فما كان من الأرجنتين إلا أن فرضت برنامج تقشف إضافي بقيمة 9,2 مليار $..انتهي الأمر..خرج مئات ألوف للشوارع..جرت صدامات عنيفة مع الشرطة..31 قتيل وألفي معتقل..حاصر المتظاهرون القصر الرئاسي..هرب رئيس الدولة بطائرته العمودية..مُخلفًا وراءه وضعًا في غاية البؤس..57% نسبة الفقر، 23% بطالة، و20 % من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية..بينما وقف أدولف رودجيت سا، أحد الرؤساء الثلاث المعينين، يُعلن أمام العالم كله..الأرجنتين من الآن فصاعدًا..دولة مُفلسة بكل ما تحمل الكلمة من معني.
التجربة المريرة لصندوق النقد مع الأرجنتين في أزمة الإفلاس..لن تجدها بالطبع في إعلانات الاجهزة السيادية الرمضانية..الإعلان يبدأ حكاية الأرجنتين من 2015..ويقتل ماضي 19 وصفة للصندوق أدّت لإفلاس الأرجنتين في 2001..القصة ستجدها كاملة..في فصل ‘‘الأزمة الأرجنتينية: الصندوق يحتم اندلاع أكبر إفلاس حكومي عرفه التاريخ‘‘ وهو الفصل الثاني عشر من كتاب البرفيسور في جامعة بريتوريا: إرنست فولف، والصادرة ترجمته عن المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت تحت عنوان..صندوق النقد الدولي: قوة عظمي في الساحة العالمية..وإن توافر لك وقت بعد الانتهاء من ذلك الكتاب..بإمكانك أيضًا إلقاء نظرة علي الفصل التاسع من كتاب عولمة الفقر لميشيل تشوسودفويسكي الذي يسرد تجربة البرازيل تحت عنوان ‘‘الديون والديمقراطية في البرازيل‘‘.