يواصل أوباما سرد ذكرياته في كتابه "أرض موعودة" فيقول:
أردت أن أقوم بمحاولة أخيرة لإقناع مبارك بأخذ زمام المبادرة في عملية تحول حقيقي (للسلطة). عدت للمكتب البيضاوي لإجراء مكالمة هاتفية معه، ووضعت الخط على الميكروفون لكي يتمكن مستشاريي المتجمعون حولي من الاستماع لتفاصيل الحوار.
تعمدت أن أبدأ المكالمة بالإطراء على قراره عدم الترشح لفترة جديدة، وتصورت –في رأسي- كيف كان صعبا وقاسيا أن يستمع لما سأقول شخص كمبارك الذي تولى السلطة حين كنت أنا طالبا في الكلية وعاصر أربعة من الرؤساء الأمريكيين السابقين لي.
"الآن وقد اتخذتم ذلك القرار التاريخي لنقل السلطة، أريد أن أناقش معك كيف يمكن أن تنجح هذه العملية.. أقول ذلك من منطلق الاحترام الكامل وأرغب في أن أشاركك تقييمي الأمين لما أراه محققا لأهدافك من تلك الخطوة".
ثم ما لبثت أن انتقلت فورا إلى خلاصة ما أردت أن أوصله له "اعتقد أنك إذا ما ماطلت في البقاء في كرسي السلطة وطالت عملية الانتقال فإن المظاهرات ستتواصل وربما تخرج عن نطاق السيطرة. وإن كنت تريد أن تضمن ألا يهيمن الإخوان المسلمون على الحكومة القادمة -تحت مظلة انتخابات (حرة)- فإن الآن هو الوقت المثالي لكي تتنحى وتلقي بثقلك خلف الكواليس لكي تظهر حكومة جديدة في الساحة".
وبرغم أن محادثاتي السابقة مع مبارك عادة ما كانت تجري باللغة الانجليزية، فقد اختار هو تلك المرة أن يتحدث بالعربية. والحقيقة أنني لم أحتج لمترجم كي استشعر الغضب في صوته، حين رد بنبرة مرتفعة "أنت لا تفهم ثقافة الشعب المصري.. سيدي الرئيس أوباما، إذا مضيت أنا في طريق انتقال السلطة بهذا الشكل فسيكون ذلك أخطر شيء على مصر".
اعترفت لمبارك بأنني لا أعرف الثقافة (أو العقلية) المصرية كما يعرفها هو، وبأن له في السياسة باع أطول من سنوات خبرتي. ثم أضفت " ثمة لحظات في التاريخ لا تتكرر فيها الأحداث بالطريقة ذاتها التي انتهت بها في الماضي. لقد خدمت بلدك جيدا لثلاثين عاما .. وأريدك أن تنتهز هذه الفرصة التاريخية بالطريقة التي تخلد تراثك".
تجاذبنا الجدل لبضع دقائق، وبقي مبارك مصمما على "الحاجة" إلى بقائه في منصبه مكررا قناعته بأن المظاهرات ستنتهي عاجلا. وقبيل نهاية المحادثة، قال معقبا "أنا أعرف شعبي جيدا.. إنهم عاطفيون .. وسأتحدث إليك بعد برهة لأثبت لك سيد أوباما أنني كنت على حق". أنهيت المكالمة الهاتفية، وخيم الصمت على الغرفة للحظات وأعين المستشارين جميعا مسلطة علي.
لقد أعطيت مبارك أفضل ما أستطيع أن أنصحه به، ومنحته مخرجا لبقا يحفظ له كرامته. كنت أعلم أن أي رئيس سيخلف مبارك قد يكون شريكا أسوأ للولايات المتحدة، وربما أسوأ حتى للشعب المصري.
لكن الحقيقة أنني كنت مستعدا للتعايش مع أي اقتراح منه لتسليم السلطة حتى وإن كان يعني (عمليا) بقاء جزء كبير من كيان نظامه على ما هو عليه. كنت واقعيا في تفكيري حين أفترضت أنني سأمضي ما تبقى لي من زمن في البيت الأبيض وأنا أتعامل مع مبارك (رئيسا لمصر) لولا عناد ومثابرة الشباب (الغاضب) في ميدان التحرير.
كنت سأستمر في التعامل معه كرئيس –برغم كل ما يمثله – تماما مثلما استمريت في التعاطي مع باقي المنظومة الكبرى "الفاسدة والسلطوية المتعفنة" -كما وصفها مستشاري بن (رودس)- والتي تهيمن على مقدرات الحياة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اقرأ أيضا: شبهات حول ثورات الربيع العربي (1)
لولا أولئك الفتيان والفتيات في ميدان التحرير، ولولا بسالة إرادتهم للتغيير من أجل حياة أفضل، تلك العزيمة التي سرعان ما استقطبت قطاعات أخرى من الشعب المصري، أمهات وعمال وحرفيون وسائقو تاكسي وغيرهم. مئات الآلاف تخلصوا –ولو لبرهة- من مشاعر الرهبة، ولم يبدو أنهم مستعدون للتراجع عن التظاهر ما لم يتمكن مبارك من إعادة الخوف إلى صدورهم بالطريقة الوحيدة التي يعرفها.. الضرب وإطلاق النار والاعتقال والتعذيب.
في مرحلة مبكرة من فترة رئاستي (الأولى) لم أستطع أن أن أثني النظام الإيراني عن قمع احتجاجات "الحركة الخضراء". وربما لا أستطيع أن أمنع الصين أو روسيا من سحق معارضي نظاميهما.
لكن الفرق أن نظام مبارك تلقى مليارات الدولارات من دافعي الضرائب الأمريكيين .. زودناه بالأسلحة وتبادلنا المعلومات (الاستخباراتية والأمنية) ودربنا ضباطه العسكريين.
كان السماح لمن حصل على كل تلك المساعدات ووصفناه بالحليف باستعمال العنف الوحشي ضد متظاهرين مسالمين على مرأى ومسمع من العالم كله -في نظري- منطق غير مقبول بالمرة.
اقرأ أيضا: في ذكرى 25 يناير.. ماذا قال باراك أوباما في مذكراته "أرض موعودة" عن تلك الفترة (الحلقة الأولى)
رأيت أن ذلك سيتسبب حتما في ضرر بالغ لجوهر "فكرة أمريكا"، مثلما كان سيصيبني شخصيا بضرر كبير. فما كان مني إلا أن طلبت من فريقي في البيت الأبيض "تجهيز بيان رئاسي" قائلا لهم "سندعو مبارك إلى التنازل عن السلطة".
حلقات يعرضها الإعلامي هاني الكونيسي