كي نفهم بعض ما يجري الآن من أحداث عنصريَّة في قلب أوروبا الَّتي تتشدق صباحًا ومساء بالحريّة والإنسانيّة؛ يجب أن نفهم جيدًا المركزيّة الأوروبيَّة. فتلك المركزية تتكون من أربعة عناصر لا يمكن الفصل بينها، وهي:
1- رؤية أحادية تؤرّخ لتطور العالم ابتداءً من تاريخ تطور أوروبا. بما يتضمن ذلك من اتخاذ أوروبا الغربيّة تاريخًا وواقعًا، حقلًا للتحليل.
2- إعادة تصدير هذا التأريخ وذاك التحليل إلى العالم بأسْره. بحيث لا تصبح أوروبا مقياس التطوُّر نفسه فحسب، بل تمسي كذلك مقياس التقدُّم والتحضُّر.
3- إهدار، بل نفي، كل المساهمات الَّتي قدمتها الحضارات الأخرى للتراث المشترك للإنسانيّة.
4- اعتناق الأجزاء المغلوبة (المستعمَرة/ التابعة/ المتخلّفة) لتصور الأوروبي المنتصر (المستعمِر/ المتبوع/ المتقدم) للعالم وللتاريخ، وهذا هو البُعد النفسي في المركزيّة الأوروبيَّة. فالنتيجة النهائيّة هي إنتاج أوروبا للعلم الاجتماعيّ بمعزل عن تاريخ العالم.
اقرأ أيضا: إيه اللي بيحصل في أوكرانيا؟ شرح مبسط
المشكلة أن الأجزاء (المستعمرة/ التابعة/ المتخلِّفة) من العالم المعاصر صدقت المركزية الأوروبية واتبعت خطاها فأضاعت خصوصيتها الاجتماعية وأهدرت الفرص المدهشة لاستلهام الحياة من تاريخها الضائع. والأخطر أنها ساهمت بفاعلية، مع غرب أوروبا، في تشويه العلم الاجتماعيّ وتصفيته من محتواه الحضاريّ.
فلم يعد العلم الاجتماعيّ تراكمًا حضاريًّا. لم يعد بناءً ساهمت في تشييده الإنسانية عبر حركة التاريخ الملحميَّة العظيمة، بل عُد نتاجاً أوروبيًّا خالصًا وصار لها ملكًا كاملًا. ولم يدخر المفكر الأوروبيّ وسعًا في سبيل تأكيد وترسيخ ذلك. كما لم ندَّخر نحن، كأجزاء متخلّفة، وسعًا في سبيل تأكيد ما أراد المفكر الأوروبيّ تأكيده!
وبهذه المناسبة، يتعين الوعي بأن أزمة الذهن العربيّ، في إطار خضوعه لنير المركزيّة الأوروبيّة، لا تكمن في تبعيته لأفكار ونظريات الذهن الغربيّ فحسب، بل وكذلك في تبعيته، ربما البلهاء، للطريقة التي ينتج بمقتضاها الذهن الغربيّ أفكاره ونظرياته؛ فالذهن العربيّ، بعد أن كفَّ عن الخلق، حينما ينتقد المركزيّة الأوروبيَّة، يتبع نفس منهج الذهن الغربيّ الَّذي يهدف إلى اكتشاف، أوروبيّ، للأجزاء الأخرى من العالم؛ لأجل إعادة تكوين الوعي، الأوروبيّ، بهذا العالم الَّذي بات ممكنًا، وربما ضروريًّا، إعادة اكتشافه بعد أن تم نهبه... ولم تزل الشرايين مفتوحة!
محمد عادل زكي