د.عاطف معتمد
في عام 2004 أي قبل ما يقرب من عقدين من الزمن عملتُ ثلاث سنوات في جامعة بدولة عربية شقيقة. أخذت هذه الدولة بنصيحة برنامج أمريكي بإغلاق أقسام الجغرافيا طالما أن سوق العمل لا يستوعبهم.
في هذه الدولة العربية المحافظة لا يمكن للصحافة أو الإعلام أن تقدم اعتراضا على القرار لكن الذين اعترضوا هم أساتذة التخصص في تلك الجامعات، واستمر هذا الاعتراض حتى عقدت الدولة اجتماعا موسعا أبلغت فيه الأساتذة أن إغلاق الأقسام لن يمس وظائفهم ورواتبهم بل إن إغلاق الأقسام سيجعلهم على نفس الوظيفة حتى سن المعاش وما بعده دون أن يقوموا بالتدريس أو أية أعباء تعليمية تجاه القسم الذي أغلق.
على هذا النحو سكتت الأصوات فجأة لكن بعد 10 سنوات من ذلك القرار - وحين احتاج سوق العمل في تلك الدولة إلى معلمي جغرافيا في المدارس - أعيد فتح بعض الأقسام تلبية للطلب الجديد.
اقرأ أيضا: لماذا تُهمش المواد الأدبية؟
يمكن فهم المشكلة بداية من هذا الخيط، ويمكن طرح السؤال بشكل أكثر تحديدا من خلال 3 أسئلة فرعية:
- هل الجغرافيا هي تخصص يتخرج منه الطالب ليكون معلما في المدرسة الإعدادية أو الثانوية فحسب؟
- هل إلغاء الجغرافيا في الجامعات سيضر الأمن القومي للدولة؟
- كيف يمكن إذن تكوين مواطن عارف بحدود بلده وعناصر أمنها وخصصويتها الثقافية بين الأمم؟
دعونا نشترك في الإجابة على هذا الأسئلة بشكل مبسط:
- في حالة مصر يبدو ظاهريا أن هناك فائضا في أعداد معلمي الجغرافيا ولكن هذا الفائض ظاهري سطحي، فنسبتهم المئوية لإجمالي الملتحقين في المدارس ضئيلة جدا ولا تقارن بما يجب أن يكونوا عليه، بل لابد من مضاعفتهم 100 مرة في حال جعل دراسة الجغرافيا مواد أساسية في مراحل التعليم في أرجاء وعموم البلاد. لكن الحاصل أن تدريس الجغرافيا في هذه المراحل ضعيف وغير إلزامي وهو ليس مادة حياة أو موت في الالتحاق بالكليات الجامعية مثل اللغات الأجنبية أو الرياضيات أو الفيزياء والكيمياء التي تؤهل الطلاب لتحقيق الحلم المصري الفردوسي منذ 80 سنة بأن يكون الطالب طبيبا أو مهندسا في الحياة المدنية أو ضابط شرطة أو جيش في الحياة العسكرية.
اقرأ أيضا: #تيران_وصنافير_مصرية| ما هو أبعد من "الجزيرتين" .. حقائق الأمن القومي
هذه الأحلام الفردوسية بالمناسبة تحقق أهدافا سلطوية نفسية في المقام الأول: يقال لك ياباشا في الجيش والشرطة أو ياباش مهندس في الهندسة أو يا باش حكيم في الطب. كما أن هذه الوظائف أيضا تجمع إلى السلطة النفسية تحقيق أموال كبيرة وأرباح مريحة. وليس هناك من مكان للجغرافيا بالطبع في هذه الأحلام الفردوسية. ليس لأن الجغرافيا غير ذات أهمية بل لأن الجغرافيا أسيء إليها ووضع مناهجها ثلة من مؤلفين مساكين تترسوا (أي وقفوا خائفين وراء متاريس) من الأرقام والمعلومات والجداول والخرائط ومئات أسماء الجبال والمحافظات والأنهار، ولو أغلقت الكتاب وسألت المؤلف منهم عنها لن يستطيع تذكرها !!
رد الاعتبار للجغرافيا كي تكون علما أساسيا في تكوين مصر لن يكون من الجامعة بل من المرحلة الابتدائية.
ودعونا نتذكر هنا أنه حين قامت الولايات المتحدة و بعض دول العالم بإغلاق (مؤقت) لبعض أقسام الجغرافيا فإن ذلك جاء لأسباب أخرى لا تقلل من أهمية الجغرافيا كما يبدو من الظاهر بل جاء احتراما وتوقيرا لهذا العلم !
نعم، لقد اتضح أن الجغرافيا تشعبت وتفرعت إلى تخصصات كبرى ودقيقة ولا يمكن جمعها في تخصص واحد ولا يمكن لقسم أو كلية أن تستوعيه. لدينا أكثر من 60 تخصص ومسار بحثي في الجغرافيا بداية من دراسة المدن والريف والطبوغرافيا والسياسة والاقتصاد والخرائط الرقمية والمساحة الجغرافية والسكان والأعراق والانثروبولوجيا ...إلخ.
قل لي بربك كيف يمكن وضع كل هذا في تخصص واحد تعطيه اسم "جغرافيا"؟
لقد توصلت هذه الدول إلى خطة بديلة وهي توزيع الدعم المالي والمخصصات البحثية على هذه التخصصات في العلوم التي لها كليات ذات صلة مع إنشاء مسارات بحثية جغرافية فيها، فيذهب المهتم بدراسة جغرافية الإنسان إلى كلية الدرسات الأنثروبولوجية حيث يتم هناك دعم التخصص الجديد باعتبار الجغرافيا علما بينيا مع هذا التخصص، ويذهب الراغب في دراسة جغرافية التضاريس إلى كلية الجيولوجيا ويحصل على دعم مالي وبحثي من هناك.
اقرأ أيضا: سد النهضة.. البداية الفعلية لتفتيت مصر
وهناك دول قامت بحل بديل وهي شطر الجغرافيا إلى شطرين:
- التخصصات البشرية والاجتماعية تذهب للمعاهد والجامعات المختصة بالشأن البشري والاجتماعي
- التخصصات الطبيعية في الجغرافيا (مثل التضاريس والمناخ والنبات والتربة) فتجمع معا في كلية "علوم الأرض" أو "جامعة علوم الأرض" حيث الأقران هناك يفهمون بعضهم بعضا ويساعدون بعضهم بعضا وينشرون أبحاثا مشتركة مع بعضهم البعض.
نأتي إلى سؤال: هل إلغاء الجغرافيا من كليات الآداب والتربية في الجامعات المصرية سيضر بالأمن القومي؟
الإجابة ستكون نعم لو كانت الجغرافيا تدرس بطريقة صحيحة ولو كانت الجغرافيا يقوم عليها باحثون مجددون ولو كانت الدولة تظلهم بمظلة الحماية المادية والفكرية والأمنية والاجتماعية بما يساعدهم في تحقيق نقلة نوعية لهذا العلم كي يكون علما نافعا لبلاده.
لكن إن أردنا التجرد فإن الوضع الحالي لأقسام الجغرافيا في الجامعات المصرية – من وجهة نظري المتواضعة التي ربما تكون خاطئة – هو وضع لا يبشر بالخير.
الوضع الذي تعيشه أقسام الجغرافيا يحتاج إلى نقلة مهمة جدا تعتنتي بها الدولة مع أساتذة التخصص كي تحقق ثلاثة أهداف:
-تأمين مالي لأساتذة الجامعات كي لا يهدروا حياتهم في مشتتات جلب الرزق على حساب تطوير علم الجغرافيا وبيع الكتب والمذكرات أو الانتقال لتدريس مقررات من كلية إلى كلية والسفر من هنا وهناك لتدريس مواد في أكثر من مكان مقابل دخل مادي يلبي الحياة المشتعلة غلاء.
- أن تفتح الدولة مع الجامعات أسواق عمل لهؤلاء الخريجيين الجدد قبل دخولهم الجامعة وليس بعد تخرجهم. أسواق عمل تتجاوز استقطاب إما معلم في مدرسة أو مساعد مهندس مساحة.
- تفكيك مركزية الإشراف على رسائل الدكتوراه والماجستير كي لا تكون دوائر مغلقة تسنسخ نفسها ويهيمن عليها عدد من الأساتذة فتجد نفس الوجوه في الإشراف ونفس الوجوه في المناقشة الأمر الذي يخلق حالة "عائلية" بائسة لا تطور العلم ومنقطعة الصلة عن سوق العمل وعن تيار الحياة.
اقرأ أيضا: حروب الخلافة.. حروب الإمبراطورية!
لقد زرت مثلا كلية جديدة للجغرافيا في رومانيا قبل عدة سنوات وقد غيرت هذه الكلية قبلتها وأصبحت تؤهل الطلاب للتخرج كي يكونوا مرشدين سياحيين لأن رومانيا – بعد أن خرجت من معسكر الشيوعية – اكتشفت ما بها من تنوع جغرافي بيئي بكر يتلهف عليه سياح أوروبا الغربية وأصبح السوق في حاجة إلى الدليل المرشد الجغرافي الواعي والفاهم للمناخ والنبات والبيئة البرية والبحرية والأعراق والجماعات السكانية.
لابد أيضا من وجود الجغرافي في كل وحدة محلية، وفي كل إدارة في القرية والريف والمدينة. المشكلة ليست في أنه لا توجد وظائف تناسب الجغرافي، المشكلة في أنهم يضعوا مكانه أشخاصا لا علاقة لهم بإدارة المكان.
ودعني أقص عليك نكتة هنا من واحدة من كبريات دور النشر الحكومية التي تفننت في إصدار كتب ذات أغلفة بائسة حمقاء وتتعجب وتسأل نفسك وأنت ترى هذه الأغلفة البلهاء: ألا يوجد في مصر مصصم أغلفة يقوم بهذه المهمة في هذه المؤسسة الثقافية الحكومية الكبرى؟؟
الحقيقة أن السيد مدير المؤسسة كان لديه صديق، تخرج ابنه او ابنته من كلية تجارة مثلا وأراد أن يعينه ولم يجد له سوى وظيفة مصمم أغلفة منذ أكثر من 10 سنوات.
مات السيد المسؤول الآن وترك لنا مئات الأغلفة الحمقاء المنفرة البلهاء.
ثم دعونا نأتي للسؤال الختامي: كيف يمكن تنمية عقل المواطن العادي بالفكر الجغرافي؟
الحقيقة أن الفكر الجغرافي هو مكون أساس في العقل الإنساني، وقد توصلت بعض المدارس الأجنبية إلى أن الجغرافيا في المستقبل مكانها في الفيلم والرواية ونشرة الأخبار والحديث السياسي وفهم الاستراتيجيا واستكشاف الغابات والصحاري وتدعيم السفر وحب الإنسان لمدينته فيتجول فيها وينمي قدراته العقلية بفهم المكان وتحقيق حرية السفر والانتقال وحرية دخول المناطق ذات الطبيعة العامة لأن حق الإنسان في الحياة والحرية يتضمن أيضا حقه "في المكان".
لقد توصل هؤلاء العقلاء الحكماء إلى أن الجغرافيا لها مكان لا يشغله غيرها في التخطيط وإدارة المكان، الجغرافيا حاضرة في رسم الخرائط الورقية والرقمية، الجغرافيا حاضرة في حماية البيئة وتوثيق التراث الثقافي لدولة حجمها مليون كيلو متر مربع وعدد سكاناها يتخطى 100 مليون وتحتاج عشرات أضعاف خريجي الجغرافيا من تخصصات شتى.
اقرأ أيضا: هذا ما توعدنا به جمال حمدان: ليست المؤامرة العالمية ولكنه التسمم الذاتي البطئ
في كلمتين:
وجود أقسام الجغرافيا في الجامعات المصرية بوضعها الحالي لا يعني أن الجغرافيا بخير !
وإغلاق أقسام الجغرافيا في الجامعات دون خطة قومية شاملة تأخذ بكل العناصر التي تحدثنا فيها في السطور السابقة، وتستبق الخطر، وتوفر البدائل، سيزيد الأمر صعوبة وإرباكا ويمد خطانا إلى أماكن لا نور فيها ولا ضياء