* محمد أبو الغيط
بينما كانت الأسئلة المعقدة المرتبطة بمنصات التواصل الاجتماعي تُطرح على خلفية الانتخابات الأمريكية، كانت نفس الأسئلة تُطرح في معركة مختلفة تماما.
بطل القصة هو موقع "بورن هاب" الأشهر عالميا بالمجال الإباحي، حيث تلقى ٤٢ مليار زيارة عام ٢٠١٩، وأحرز أرباحا بنحو نصف مليار دولار. خلال السنوات الماضية واجه الموقع حراكا متصاعداً من حملات تعمل على توثيق انتهاكات قانونية، كمقاطع فيديو يظهر بها قُصر، أو اعتداء جنسي.
دأبت الشركة الكندية العملاقة المالكة للموقع على نفي التهم، وبنفس الوقت التأكيد على تعاونها مع المسارات القانونية، كما حدث حين حذفت عام ٢٠١٩ قناة خاصة بموقع شريك تم اتهامه في دعوى جماعية بأنه خدع فتيات بإيهامهن أنهن يصورن مقاطع لزبائن خاصين وليس للنشر العام.
بلغت ذروة الحملة مؤخرا بخطاب وجهه تحالف منظمات نسوية وحقوقية للمؤسسات الخدمات المالية الكبرى، وتزامن ذلك مع كتابة الصحفي الأمريكي البارز، والحاصل على جائزتي بوليتزر، نيكولاس كريستوف، عن القضية بجريدة نيويورك تايمز.
هنا صدر حكم "الإعدام السيبراني"!
تباعا أوقفت شركات "فيزا كارد" و "ماستر كارد" و"بي بال" خدمات الدفع الخاصة بها للموقع. هذا يعني عمليا أن الموقع سيشهر الموقع إفلاسه ويُغلق بعد حرمانه من موارده.
لم يستغرق الأمر أياما حتى أشهر الموقع هزيمته التامة. في منتصف ديسمبر قررت الشركة تغيير نموذج عملها بالكامل، وبدلا من سماح الموقع بحرية رفع المحتوى كما في "يوتيوب" تم الانتقال لحظر الرفع إلا للمستخدمين ذوي الهويات الموثقة، وبأثر رجعي تم حذف أو تعليق أي مقطع مصور لم يتم توثيق شخصية من قام برفعه. انخفض محتوى الموقع من ١٣ مليون فيديو إلى ٤ ملايين فقط، أي فقد أكثر من ثلثي محتواه!
قال الموقع في بيانه ذو اللهجة الاحتجاجية إن هذا الإجراء الصارم لم تنفذه كافة المنصات الأخرى.
بعد أيام قليلة وصلنا إلى عاصفة حذف حسابات ترامب، ومرة أخرى صدر عليه حكم "الإعدام السيبراني"، زالت كافة حساباته من الوجود الافتراضي.
تم ذلك بدون أي حكم قضائي، أو قاعدة ثابتة، إلا مواجهة طاريء هو محاولة الإنقلاب الشعبوي في الكابيتول، والذي أسفر عن مقتل خمسة أشخاص.
الاجراءات شملت أيضا حظر فيس بوك الإعلانات السياسية بالكامل في جورجيا، كما شملت حظر "إير بي إن بي" لكافة خدمات استئجار الغرف والمنازل بمحيط قلب واشنطن وغيرها.
بالتأكيد أقل ما يستحقه ترامب هو حذف حسابه، وفي تقديري يمكن لوم تلك المواقع على ترك حسابه فترة أطول من أي مستخدم عادي يكرر نفس القدر من المخالفات، كما يستحق القائمون على الموقع الإباحي محاكمات على الجرائم القانونية بدورهم، لكن هذا لا ينفي الأسئلة التأسيسية المطروحة حاليا.
أول الأسئلة هو السؤال الكلاسيكي حول حدود حرية التعبير.
قال "بورن هاب" في إطار دفاعه عن محتوى تعرض للهجوم بمقال نيويورك تايمز، وهو حول فتيات فاقدات الوعي أو نائمات، بأنه يأتي في إطار حقوق حرية التعبير الدستورية، كما ملأ أنصار ترامب الدنيا ضجيجا حول حرمانهم من حرية التعبير.
تجمع القوانين أن حرية التعبير مقيدة بحدود ضرر الآخرين. الكلام قد يذهب بصاحبه للمحاكمة والسجن إذا تحول إلى جرائم مثل "التحريض على العنف" وخطابات الكراهية والعنصرية، فضلا عن "السب والقذف".
لكن الأمور تبقى جدلية، يقول ترامب أنه لم يدع إلى اقتحام الكونجرس بل للتظاهر السلمي حوله فقط. من يحدد تعريف "التحريض على العنف" وتطبيقه على هذه الحالة؟
يأخذنا هذا لسؤال ثان: هل المديرين التنفيذيين للشركات يحملون سلطات مطلقة؟
قالت المستشارة الألمانية ميركل تعليقا على غلق حساب ترامب: "من الممكن التدخل في حرية التعبير، لكن وفق الحدود التي وضعها المشرع، وليس بقرار من إدارة شركة"، لكن في الواقع كان حكم الشركات المالية بشأن الموقع الإباحي أسرع وأوقع من حكم أي مؤسسة قضائية، كما كان حكم منصات التواصل أكثر إيلاماً لترامب.
لكن هل كان يجب انتظار آليات القضاء بالغة البطء؟ ومن اللافت هنا أن البنية القضائية تفشل مرة أخرى في مواكبة تطورات متسارعة، كما حدث في فشلها التاريخي بمواجهة قضايا الاعتداء الجنسي فانتقلت الفتيات إلى آلية الشهادات المجهلة في حملة "وأنا أيضا".
أليس هذا التداخل بمثابة دور شعبي مباشر؟ أليس حراك الفتيات الناجيات وخلفهن منظمات حقوقية وحملة ضخمة من الداعمين شعبيا هو ما أنتج قرار الشركات؟ وأليس منح هذه السلطة للحكومات اكثر خطرا؟
لكن ماذا لو قررت شركات الانترنت الكبرى استخدام هذه السلطات الناجزة في حصار موقع آخر، أو شركة، أو جمعية، أو شخصية سياسية أخرى؟ ماذا لو قرر فيس بوك حجب كافة الأخبار الداعمة أو المعارضة لقضية ما عالميا او في دولة بعينها؟
وفي تقديري فإن أفضل الصيغ هي في دعم التحول لاعتبار هذه المنصات جهات نشر إعلامي مثل الصحف، بالتالي تظل مستقلة تماما عن الحكومات لكن تخصع لإرشادات ورقابة عيئات تنظيم مستقلة مثل "الأوفكوم" البريطانية المشرفة على بي بي سي وغيرها من وسائل الإعلام.
يأتي السؤال الثالث من زاوية مختلفة: ما هي حدود الخاص والعام في تلك الشركات؟
حيث أسكن في إنجلترا تمت منذ عهد تاتشر خصخصة كافة الخدمات العامة تقريبا. يمكن للمواطن الاختيار بين شركات خاصة لتوفير المياة أو الكهرباء، كما أن خطوط المترو والباص تتبع شركة خاصة. لكن هذه تظل "خدمات عامة"، للحكومة دور كبير في تنظيمها، والإشراف عليها، والتدخل المباشر في الإدارة أو التمويل، كما حدث مؤخرا بأزمة كورونا حيث ضمنت عدم إفلاس هيئة النقل البريطانية.
من الناحية النظرية يمكن للمستخدمين أن يهجروا أحد هذه المواقع، ويمكن أن يُفلس دون أن تنقذه حكومة، كما يمكن فتح مواقع بديلة، وثمة أنباء أن ترامب يدرس تأسيس قناة إخبارية وموقع تواصل اجتماعي.
لكن واقعيا طبيعة الأثر "العمومي" لتلك الخدمات أكبر من أن يُشرح. في ٢٠١٦ أقر مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة قرارا باعتبار الوصول للانترنت هو أحد "حقوق الإنسان". ليس من الغريب أن لاقى القرار تحفظا من السعودية وروسيا والصين، الدول الكبرى الحاجبة للمواقع.
وإذا كانت هذه خدمات عامة تقدمها شركات خاصة، فإن سؤالا خامسا يظهر: ما هي حدود مسؤوليات مقدم ومستخدم الخدمة؟
حسب القانون الأمريكي لا مسؤولية على مواقع التواصل بشأن ما ينشره المواطنون بها، لذا حاول ترامب مرارا إلغاء "المادة ٢٣٠".
في تعليق سابق للقائمين على موقع "يوتيوب" حول القنوات اليمينية المتطرفة في البرازيل قالوا أنهم "مكتبة"، لا يمكنهم منع الناس من رفع مقاطع الفيديو. وبنفس المنطق لم يتدخل فيس بوك وتويتر حين كانت المنصتان تتكدسان بدعايات تنظيم داعش الأرهابي، أو حين تلاعب الروس بالانتخابات الأمريكية عبر الإعلانات الموجهة التي كشفتها فضيحة "كامبريدج أناليتكا". هنا فقط بعد ضغط إعلامي وشعبي قررت مواقع التواصل التحرك وتم حذف عدد ضخم من الحسابات المرتبطة بالإرهاب.
وسادسا، في النهاية: هل "التريند" يصنع السياسة أم السياسة تصنع "التريند"؟ بمعنى هل أدت المنصات فعلا لانتخاب ترامب وصعود اليمين بالعالم؟ أم ثمة أسباب اقتصادية وسياسية وتاريخية عميقة، وما الإقبال الكبير على ذلك المحتوى بالانترنت إلا أحد وجوه الظاهرة؟ لو كانت المنصات هي كلمة السر الوحيدة إذن هل لو فرغت هيلاري فريقا أكثر احترافية لفازت؟ ولو أنتج اليساريون في البرازيل قنوات "يوتيوب" أفضل من نظريتها اليمينية هل سيسقط بولسارنو؟
كتب جاك دورسي، رئيس شركة تويتر، إنه "لا يحتفل ولا يشعر بالفخر" لقرار حظر حساب ترامب، رغم قناعته أنه قرار صحيح "استنادا على التهديدات الملموسة على موقع تويتر وخارجه".
ورغم تكراره أن المنصات هي شركات تتخذ "قرارات تجارية" وليست جهات حكومية، إلا إنه قال إن ما حدث يؤدي إلى "تفتيت الحوار العام"، وأنه يمثل سابقة خطيرة.
الخلاصة أننا نشهد ببطء لحظات تاريخية لتشكل عالم جديد، وكما غير يوم ٦ يناير ٢٠٢١ تاريخ الولايات المتحدة والعالم بعد اقتحام الكابيتول، فإن يوم العاشر من يناير، يوم حجب تويتر لحساب ترامب، هو يوم تاريخي لن يعود الانترنت بعده كما كان قبله.
الصورة لملصق دعائي للحملة ضد موقع "بورن هاب" عرض أقل
---------
* صحفي استقصائي