شادي لويس بطرس
قبل أيام، عادت قضية فتاتي "تيك توك"، حنين حسام ومودة الأدهم، إلى صدارة الأخبار. فبضع فيديوهات قصيرة في التطبيق الصيني كانت كفيلة بتحريك النيابة العامة اتهامات تتعلق بقيم الأسرة المصرية، ضدهما وغيرهن. ولم يثنِ قرار البراءة الذي أصدرته المحكمة الاقتصادية في تلك القضية، من عزم النيابة العامة، فحركت بالاستناد إلى المقاطع المصورة نفسها قضية جديدة، أمام محكمة الجنايات هذه المرة. الحكم الثقيل، عشر سنوات بالسجن على حنين، وست سنوات على مودة، صادم بالطبع، لكنه ليس مفاجئاً جداً. فمحاكم الدرجة الأولى المصرية تميل إلى إصدار أحكام ثقيلة في حالة المحاكمات الغيابية، ويتم تخفيفها في درجات التقاضي اللاحقة.
الصادم هو التوليف القانوني للقضية. فبدلاً من جنحة خدش الحياء الأولى، وجهت النيابة تهمة الإتجار بالبشر. وهذه التهمة، وفي تلك القضية بالذات، يمكن فهم بعض جوانبها، عبر ربطها بعمليات عولمة القوانين.
اقرأ أيضا: لماذا علامات الإناث المدرسية أعلى من الذكور؟
تاريخ عولمة القوانين أقدم من العولمة ذاتها. فالامبراطورية كنسخة متحفية من مركزة السلطة الكوكبية، فرضت القوانين الموحدة كمبرر أخلاقي لوجودها وكأداة لترسيخه. أما العولمة المعاصرة، فبوصفها إخضاع العمليات المحلية لقوى السوق العالمية، احتاجت إلى دمج الوحدات القانونية الوطنية المختلفة داخل بنية معيارية وموحدة، تسمح بتمدد رأسمال وحرية حركته.
على رأس اللائحة تأتي القوانين الاقتصادية والمالية، وتلك التي تحكم الاستثمار والتجارة وحقوق الملكية الفكرية والعمل وكل ما يتعلق بالسوق، حيث يتم تضمينها داخل بنود معاهدات دولية، تلزم الحكومات الموقعة بتحويلها إلى قوانين محلية. لاحقاً، انضمت بنود جديدة، كالبيئة مثلاً، إلى تلك المنظومة القانونية الموحدة، بحكم الوعي المتأخر بالحاجة إلى حماية الموارد الطبيعية كجزء من سياسات السوق، وبحكم أن البيئة هي أيضاً حقل متجاوز للحدود الوطنية.
لكن الأمر لم يقتصر على ما هو رأسمالي فقط. فعمليات أخرى لا تقع في مجال الاقتصاد الرسمي، لكن طبيعتها العابرة للحدود استلزمت صيغاً قانونية لها الاتساع نفسه والنفاذ. فبالإضافة إلى مكافحة الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، كان الإتجار بالبشر واحداً من آخر البنود التي تم ضمها إلى شبكة المعاهدات الدولية الحاكمة. فقط في العام 2000، تم إصدار بروتوكول باليرمو لمكافحة الإتجار بالبشر، كمكمّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العبر وطنية.
اقرأ أيضا: من «بورن هاب» إلى «ترامب»: أحكام "الإعدام السيبراني" .. من يحكم الانترنت؟
وكما في عصر الامبراطورية، فإن التوحيد القانوني للعولمة يخدم المراكز المهيمنة على حساب الأطراف، فتضمن المعاهدات الدولية الجامعة تدفق الخامات والبضائع في اتجاهات بعينها، وتفتح الأسواق الوطنية الصغيرة عنوة وتجرد اقتصادياتها الهشة من أي حماية حكومية. وفي الوقت نفسه، تمنع تدفق البشر في اتجاه عكسي، أي من الهوامش نحو المركز، وتقوم بتجنيد الدول الوطنية في الأطراف للعمل كشرطي حدود لحسابها، حتى تمنع تلك الحركة من المنبع.
مكافحة العبودية كانت واحدة من أكثر القيم مركزية في ذروة صعود الإمبراطورية البريطانية، كمبرر أخلاقي لوجودها وحجة متوافرة دائماً لتدخلاتها العسكرية. وكذا، فالصيغة الجديدة لعولمة مكافحة الإتجار بالبشر، يظل ما يحركها هو انشغالات المركز. فالعواصم الغربية هي الجاذب الرئيسي والمولد لتجارة البشر، لأغراض الاستغلال الجنسي والخدمة المنزلية والتبني ونقل الأعضاء، وتبدو مهمة حكومات الأطراف هنا أيضاً كوكيل محلي لمواجهة الأزمة من نقاط التوريد قبل وصولها إلى المراكز الرأسمالية.
اقرأ أيضا: لماذا وافقت على سياسات واتساب الجديدة؟
بالطبع ليس هناك ما يعيب قوانين مكافحة الاتجار بالبشر في ذاتها، لكن آليات عملها بين المراكز والأطراف هو ما يحولها أحياناً كثيرة إما إلى بُنى صورية أو أدوات يمكن توظيفها للقمع في دول الأطراف باسم القيم العالمية.
وقعت مصر على بروتوكول باليرمو، وأصدرت بعدها قانونها المحلي المتوافق مع بنوده في العام 2010. منذ ذلك الحين، تتعامل الاستراتيجيات والمبادرات والحملات الحكومية المصرية مع مكافحة الاتجار بالبشر بوصفها شأناً يتعلق بالمركز الغربي، فتأتي مقترنة دائماً مع الحديث عن مكافحة الهجرة الشرعية، وتركز الدعاية الحكومية على الأخيرة في خطاب يبدو موجهاً للخارج أكثر منه معنياً بالداخل.
في قضية فتيات "تيك توك"، ترد النيابة العامة على اتهامها باستهداف النساء وبالرجعية وبالذكورية، من طريق قلب المعادلة الأخلاقية، أي بتوظيف القانون المعولم الخاص بمكافحة الاتجار بالبشر، لنفي تلك التهم. بل وتضع نفسها في موقع حامي القيم الإنسانية العالمية، وليس فقط الحياء والنظام العام والمجتمع، وتوظف هذا كله لسحق فتيات في التاسعة عشرة من العمر، حِدن قليلاً عن صراط المجتمع والسلطة القمعية، فوجب التنكيل بهن بكل طريقة ممكنة.